فيصل البقالي

على قَلقٍ كَأنَّ الرِّيحَ تَحتي[1] لعل شطرَ أحدِ أبياتِ أبي الطيب المتنبي هذا والموسوم بروح جمالية وقيمية ربما تبدو “غريبة” عن السائد في الشعر العربي في زمان أبي الطيب، لخيرُ مثال على ضميره المُعذَّب وروحه المُسْتَفَزَّة والمُتحَفِّزَة التي لا تستقر على حال، والتي أخرجت لنا شخصية فذة من شخصيات الأدب العربي والإنساني، لا يملك المرء أمامها إلا الوقوف مَلِيًّا تتنازعه المشاعر وتتوزعه التساؤلات.. ولِأَمْرٍ ما وجدنا شاعرا معاصرا حداثيا مثل الشاعر الفلسطيني محمود درويش رحمه الله يجعل هذا البيت شعارا لأحد دواوينه فيما يشبه العنوان الثاني[2] .. لقد قاد هذا القلق المتنبي في رحلة اخترقت الحيز الزمني الذي رسمته الأقدار لحياته، إلى زمان جمالي وقيمي ما يزال كالنهر الخالد لا ينضب ماؤه ولا تنقضي الحاجة إلى الورود عليه.

        ولعل أهم هذه السمات التي طبعت هذا “العمر الجمالي والقيمي” لأبي الطيب ما يحدثه في متذوق شعره من حيرة بشأنه؛ فإنه يحمله حملا على تصديق دعاواه وتبني شعاراته حتى لتَلبسَه روحُه لُبسا .. ولكنه يوقفه أمام تقلباته وضجراته ومهادناته حائرا دهِشا متسائلا عن حقيقة هذه الدعاوى وعن أسباب تلك الضجرات والثورات إثر المهادنات والمطامنات.. هل كان المتنبي مجرد شاعر متكسب لا يعدو في هذا حال شعراء زمانه المتهافتين على أبواب الأمراء والأعيان؟ أم هل تراه عرف كيف يحتال لتكسُّبه حتى صدَّق معاصروه وكثيرٌ ممن جاؤوا بعدَه إلى يومنا هذا أنه كان شيئا آخر؟ أم أنه كان “مثقَّفا” مناضلا بشعره، لا يهمُّه المال ولا يعنيه الكسب بل قضيةٌ جعلها نصْب عينيه، فهو في فلكها يدور، وفي إطارها يجب أن يُقرأ؟ أم أنه كان مزيجا من هذا وذاك؟ .. ما سرُّ هذا الذي “ملأ الدنيا وشغل الناس”[3]؟

أولا، الصراع النفسي في بلاط الأمراء

أمضى أبو الطيب المتنبي حياة كلها صراع؛ وقد كان صراعه هذا خَفِيّاً حينا، جليا في أغلب الأحيان … وعندما يكون صراعه خفيا، فإنه غالبا ما يكون في دعة من العيش عزيزا مكرّما، قد أسَرَهُ من أكرمه بكرمه حتى حَشَدَ عليه الحُسّادَ والمنافسين.. فهو يصارعهم ويكابد كيدهم، ولكن في حرج وخَفَرٍ ممن أكرمه.. وخير مثال على ذلك ما كان من أمره وهو في بلاط سيف الدولة الحمداني، وكيف كان يجالد نفسه في رد العداوات كعداوة “ابن خالويه” الأديب ومنافسات “أبي فراس الحمداني” الأمير الشاعر وابن عم سيف الدولة.. وقد رأينا في هذا البلاط ما كان من أمره بعد تَغيُّر “أبي العشائر الحمداني” عليه، ومحاولة تصفيته بعد ذلك، علما أنه هو من كان سببا في لقائه بسيف الدولة بادئ الأمر.. فها هنا نجده يغالب رغبتَه المتأصلة فيه على المواجهة والمصادمة، وإلحاحَ ذاته المتضخِّمة عليه في الانتصار لها بما يليق بها عنده.. ولكننا رأينا رغم ذلك كيف كان يراعي صاحبه الحمداني مراعاة الكريم لمن أكرمه والمحبِّ لمن أحبه.. ونجده يُعَرِّضُ ويُلَمِّحُ ولا يُفصح إفصاحا، ولا يُعيِّنُ جهة بعينها يقصدها في كلامه.. فيقف أمام المعاني بعلامات على شخوصها يتحدث عنها بما يريده بأصحابها.. فيقول:

مَالي أُكَتِّمُ حُباًّ قدْ بَرى جَسَدي*** وَتَدَّعي حُبَّ سَيْفِ الدَّوْلَةِ الأمَمُ؟

ثم يقول:

إنْ كانَ قَدْ سَرّكُمْ ما قالَ حاسِدُنا***فَما لِجُرْحٍ إذا أرْضاكُمُ ألَمُ!

كما نجده يقول:

أجِزْني إذا أُنشِدْتَ شِعْراً فإنَّما***بِشِعْري أتاكَ المادِحونَ مُقَصَّدا

ودَعْ كُلَّ صَوْتٍ غَيْرَ صَوْتي***فإنَّنـي أنا الصّائِحُ المَحْكِيُّ، والآخَرُ الصَّدى

ويقول في شأن تغيُّر أبي العشائر عليه ومحاولة قتله (وهي القضية التي فسرها أبو فهر محمود محمد شاكر بحب أبي الطيب لخولة أخت سيف الدولة وغيرة أبي العشائر على حرم الحمدانيين)..

فإن كان يبغي قتلَها (يقصد نفسَه) يكُ قاتلا *** بكفيه، فالقتل الشريف شريفُ

وذلك بعد أن يقول معرضا بحبه لخولة (وهو مما اعتمده شيخنا أبو فهر في استدلاله على قصة الحب تلك):

متى تزر قومَ من تهوى زيارتَها***لا يتحفوك بغير البيض والأسل

 وغير ذلك مما يجده من ألم في نفسه ورغبة في الإفحام، وما من سبيل إلى التصريح إلا التلميح .. فهو لا يفصح تماما عما يريد، ولا عمن يقصد، ولا عن سبب هذه النفثات التي يقحمها في ثنايا الكلام إقحاما؛ في حين أن القصيدة إنما تكون في تهنئةٍ بالعيد، أو بالنصر، أو تعزية في وفاة عزيز، إلى غير ذلك ..

ونجد مثل هذا أيضا في ساعة القهر والحصار لسبب من الأسباب، نجد هذا الغضب الكامن الذي لا يفصح عن نفسه في ثنايا القصيد كأنه الجمر تحت الرماد .. وخير مثال على هذا، ما نجده منه وهو عند كافور الإخشيدي .. ظلّ يكتم ويكتم، ويلمح ثم يلمح؛ هذا والقوم في مِصر غير القوم في الشام؛ والثقافة العربية بمعناها البدوي عند المصريين “ضعيفة” في ذلك الزمان إذا قورنت بها عند أهل الشام والعراق .. حتى إذا طفح الكيل وحانت غفلة من كافور ونجح في الهروب من مصر استعاد روحَه الثورية التي تُصَرِّحُ ولا تُلَمِّحُ توقا إلى مجدٍ تَغَنَّى به في صِباه حين قال:

أين فضلي إذا قنِعْتُ من الـــــــــــــدَّهْر بِعَيْشٍ مُعَجَّلِ التَّنْكيدِ؟

إلى قوله:

عِشْ عَزيزاً .. أوْ مُتْ وأنْتَ كَريمٌ بَيْنَ طَعن القَنا .. وخَفْق البُنود!

        هذه الروح الوثّابة الغضبى المُتْرَعَة بحب المجد والأنفة من الدُّون، هي نفسها التي نجدها تعود -أو بالأصح تُنْهي تَخَفِّيها- بعد أن ضاقت ذرعا بحياة الدَّعة عند كافور، وقبله عند سيف الدولة على اختلاف منزلة الشخصين عند أبي الطيب حبا واحتراما وتقديرا.. ففي قصائد ثلاث طبعت بدايات مرحلة “ما بعد كافور” نجد هذا البوح الحار فيما يشبه الانفجار .. وهي القصيدة الأولى في هجاء كافور والتي مطلعها “عيدٌ بأيَّةِ حالٍ عُدْتَ يا عيدُ” وقصيدة الحمّى الشهيرة والتي مطلعها “مَلومُكُما يَجِلُّ عَنِ المَلامِ” وقصيدته المتفردة المقصورة التي يصف فيها خروجه من مصر وظروف الرحلة، والتي مطلعها: “ألا كُلُّ ماشِيَةِ الخَيْزَلى  فِدَى كُلِّ ماشِيَةِ الهَيْذَبَى

        ففي هذه القصائد نجد هذا الخروج العنيف لنفثات صدر لا شك أنها كانت محصورة محبوسة عند كافور وقبله بشكل من الأشكال في بلاط سيف الدولة. فلما لاقت فضاء الصّحراء الرّحب أثناء رحلة الهروب، خرجت بقوة وعنف فنجده يقول في قصيدة الحمّى معبرا عن هذا الاشتياق للانعتاق:

ذَراني وَالفَلاةَ بلا دَليلٍ  ..  وَوَجْهي وَالهَجيرَ بِلا لِثامِ

فإنِّي أسْتَريحُ بِذا وَهَذا  ..  وَأتْعَبُ بالإناخَةِ والمُقامِ

ويقول في المقصورة مُعْتَدًّا بنَفْسِه مُتَوَعِّداً مُهَدِّدا:

فَلَمّا أنَخْنا .. رَكَزْنا الرِّمــاحَ ..  بَيْنَ مَكارِمِنا وَالْعُلــــــــى

وَبِتْنا نُقَبِّلُ أسْيافَــــــــنـا ..  وَنَمْسَحُها مِنْ دِماءِ العِدَى

لِتَعْلَمَ مِصْرُ .. وَمَنْ بِالعِراقِ .. وَمَنْ بِالْعَواصِمِ .. أنِّي الْفَتَى

وأنِّي وَفَيْتُ .. وأنِّي أبَيْـــتُ .. وأنِّي عَتَوْتُ عَلى مَنْ عَتَا

وَما كُلُّ مَنْ قالَ قَوْلاً وَفَى .. وَلا كُلُّ مَنْ سِيمَ خَسْفاً أبَى

ويقول هاجيا كافورا قبل ذلك مشيرا إلى أنَفَته من حال مصر ووضعها السياسي والاجتماعي:

أكُلَّما اغْتالَ عَبْدُ السُّوءِ سَيِّــدَهُ ..  أو خانَهُ .. فَلَهُ في مِصْرَ تَمْهيدُ؟

صَارَ الخَصِيُّ إمَامَ الآبِقِينَ بِهَــا ..  فالحُرّ مُسْتَعْبَدٌ .. وَالعَبْدُ مَعْبُودُ

نَامَتْ نَوَاطِيرُ مِصرٍ عَنْ ثَعَالِبِها ..  فَقَدْ بَشِمْنَ وَما تَفْنى العَنَاقيدُ

ولعل من المناسب الإشارةُ إلى انتِقادِه في نَفَسٍ ثَوْريٍّ واضح للحالة الثَّقافية الفكرية في مصر وتأففه منها إضافةً إلى ما عابَهُ من وَضعٍ سيّاسي واجتماعي وذلك حين يقول في قصيدة أخرى هجا بها كافورا:

أغَايَةُ الدّينِ أنْ تُحْفُوا شَوَارِبَكم؟ *** يا أُمّةً ضَحكَتْ مِن جَهلِها الأُمَمُ!

كان أبو الطيب إذن، يعيش قلقا وصراعا نفسيا في بلاط الأمراء؛ يسعى إليهم ويسعون إليه، فأما سعيهم فللأنس بشاعر كبير طبقت شهرته الآفاق، ولنيل كرم الأحدوثة بتقريبه من مجالسهم، ولتتمة أبهة الملك والإمارة بوجود مثله في بطانتهم. وأما سعيه إليهم فثمة ما لا يستقيم فهمه .. إذ لو كان العطاءَ وحدَه، فلقد نال منه غايته؛ ولو كان القربَ من السلطان، فلقد قاسموه أرائكهم وأجلسوه حيث لم يجلس شاعر في زمانه، بل وربما حتى في غير زمانه؛ ولو كان الظهور على الأقران شعراء وأدباء وعلماء فقد حاز الرفعة بينهم وما زالوا على اختلافهم فيه يجلونه ويعظمونه ويحذرونه! يبقى شيء قد أوّله كثيرون بأنه تشوف إلى الوزارة أو الإمارة، وآخرون فسّروه بطمع في الإقطاع لبيت قاله لكافور مشهور .. ومنهم من رأى فيه رجلا مريضا بحب ذاته وتضخمها في عين نفسه.. أليس هو القائل: واقفاً تحت أخمصَيْ قدر نفسي .. واقفا تحت أخمصَيَّ الأنامُ .. وهل بعد هذا من فخر لمفتخر أو زهو لمزهو؟ ..

والحق أن كل ذلكم آخذ من الحقيقة بنصيب على ما يقبله منطوق شعره، ويقوله ما وصلنا من ذكره … ولكن دعونا لا نقنع بهذه الروسم و”نعيد نظرا مع عبد قيس”، فلعل وراء الأكمة ما وراءها!

ثانيا، اختلاف نقاد أبي الطيب المتنبي في تفسيرهم لولاءاته وخصوماته:

لقد أكثر الباحثون في سيرة أبي الطيب المتنبي الحديثَ عن أسباب ثورته وغضبه .. وكثيرا ما وجدوا أنفسَهم في التناقض والحيرة اللذين تحدثنا عنهما آنفا، وذلك حين يقفون على مدحه لمن تُعارِض أحوالُهم القيمَ التي نادى بها في شعرِه.. فعمدت فئة منهم إلى سلب صفة المصداقية عن دعاواه، معللين ذلك بأن أبا الطيب إنما كان طامعا في مجده الشخصي وإرضاء رغباته المادية بالأساس، وأنه لم يكن إلا شاعرا متكسبا شأنه في ذلك شأن غالبية الشعراء في عصره.. وقد جرّهم ذلك إلى إنكار كثير من الشيم التي تحلى بها أبو الطيب وأثبتها له معاصروه خصوصا المحققون منهم وعلى رأسهم العالم اللغوي الكبير أبو الفتح عثمان بن جنّي .. بل وعمدوا حتى إلى الطعن في نسبه[4] أو التعريض به .. ومنهم من حاول التوفيق -بشكل متكلف وعزلٍ لسياقات قوله بعضها عن بعض- بين مقام البوح الذاتي الذي ينفس به الشاعر عن أشجانه ويعبر عن أحلامه ويعوض به عن إخفاقاته، وبين مقامه في التكسب بشعره على اعتبار أنها مهنة كانت متداولة معروفة في ذلك الزمان.

ولكننا نرى أبا الطيب يدخل بغداد وهو في أوج شهرته – مع سعي الأعيان إلى أن يخلدهم بشعره – ولا يمدح الخليفة العبّاسي ولا وزراء بني العبّاس ممن كان له منهم موقف سياسي أو أخلاقي!! ونراه يدخل مدنا وبلدانا سعى إليه فيها أمراؤها طالبين مدائحه تخليدا لذكرهم فيترفَّع عنهم ولا يجيبهم إلى ما سألوا؛ بل وتَعْرِضُ له أحيانا وَساطاتٌ من بعض أصدقائه ليمدح هذا أو ذاك ممن يأنف منهم فنراه لا يفعل!! أو هو إن فعل – وقليلا ما فعل – يتكلف مدحا هو عين الهجاء، أو يقف بين يدي “الممدوح” لا يلتفت إليه بل يمضي في ذكر ما يومن به ويتطلع إليه من معاني العلى والفضل، أو يمدح نفسه صادحا بآرائه السياسية المعارضة حتى يضيق به صدر ذلك “الممدوح”!! وقد يدخُلُ مُدُناً لا يَعرِفُ فيها أحداً إلا أميرَها، ويسعى إليه هذا الأمير ليمدَحَه عارضا المال والجاه ولا يفعل؛ بل ويتعرض للحصار داخل حدود المدينة أو الإقليم فيأبى ويُصِرُّ على الإباء حتى يخرج هاربا متسللا هاجيا ذلك الأمير بأقذع الهجاء وأقساه ولا يتنازل عن طريقته ولا مذهبه في القول!! ومثال هذا نجده شديد الوضوح في قصته مع إسحاق بن كيغلغ[5] والأمثلة كثيرة..

كلا.. لم يكن أبو الطيب ذلك الطامع الرخيص أو المترخّص الحريص. لقد كان إذا أحبّ خفض جناح الذل عند إساءة من يَوَدُّه ما دام في قوس صبره مَنْزَع، حتى إذا عيلَ صبرُه رحل عنه متخفيا بشكل من الأشكال، ولم يذكره إلا بالخير أو بعتاب رقيق شفيف. أما إذا ما أبغض واحتقر، فإنه يواجه من تُتاحُ مواجهتُه ويداري من تَجْدُرُ مداراتُه؛ حتى إذا تمَّ له المَحيصُ أرسلَها إليه مخلِّدَة بالعار قصَّتَه في ديوان العرب. فلقد أحب أبا العشائر الحمداني وكان هو الذي عرّفه إلى سيف الدولة، وقد تَغَيَّرَ عليه أبو العشائر كما أسلفنا حتى أنه أرسل إليه غلمانا ليوقعوا به فرماه بالنبل أحدُهم وقال: “خذهُ وأنا غلام أبي العشائر!” فقال أبو الطيب أبياتا بليغة مُبِينَة عن حاله يقول فيها:

ومُنْتَسِبٍ عندي إلى مَنْ أحِبُّهُ .. وللنَّبْلِ حَوْلي مِنْ يَدَيْهِ حَفيفُ

فَهَيَّجَ مِنْ شَوْقي .. وَما مِنْ مَذَلَّةٍ  حَنَنْتُ .. وَلَكِنَّ الكَريمَ أَلوفُ

فَإنْ يَكُنِ الْفِعْلُ الَّذي ساءَ واحِداً .. فَأفْعالُه اللَّائي سَرَرْنَ أُلوفُ

لقد حكم النقاد من الفريقين على شخصية أبي الطيب من خلال الحديث عن أحوال معزولة عن بعضها معتمدين في ذلك على ما كان من مصانعات للمتنبي -على عكس ما عوّدنا في شعره- إبان مكثه في بلاط بعض هؤلاء السلاطين؛ ولكن آخرين – وهم من يجوز أن نطلق عليهم أصحاب التوجه الثالث- وجدوا لأبي الطيب مبرِّرا موضوعيا لا علاقة له بما قال به كثير من دارسي سيرته مثل طه حسين[6] ومن أخذ برأيه في هذا الباب.. ومن خلال قراءة أصحاب هذا التوجه الثالث[7] تستقيم كثيرٌ من القطع المتنافرة في صورة أبي الطيب وتتجمع في تناغم لتشكل صورة عامة متناسقة.

هذا، وتكاد تتفق مجموعة من الدراسات الأسلوبية لشعر المتنبي أن مدحه لكافور قد حمل في طيه من ملامح الهجاء والسخرية الشيء الكثير؛ فإنّ كثيرا من الصور التي ابتكرها في مدحه استعملها في هجائه فيما بعد، خصوصا تلك التي تدور موضوعاتها حول سَوادِه ورِقِّه وكونه خَصِيًّا، وكذا طريقة تدرُّجه في السلطة ثم استئثاره بها. أما بعد رحيله عن كافور، فسوف تضعف هذه المراعاة وتضمحل ليعود إلى طبعه القديم في البوح الذي لا يشق له غبار، وإن كانت حكمة السنين قد علمته كيف يقول دون إيقاع نفسه في المشاكل والمحن. وكأن ما كان يراعي ويصارع نفسه لأجله بات بعيد المنال وقد تقدم به العمر وأمسى طريدا وغدا شعره متداولا يملأ الدنيا ويشغل الناس، ومعه سمعوا مزاجه المتقلب وأخباره المليئة بالمتناقضات والتلفيقات.. فلو كان المال والتكسب، فهما باقيان مطلبين ملازمين لملازمة الحاجة، بل لتألق شعره وزيادة شهرته والطلب عليه؛ فلا يبقى إلا أن ثمة أمر آخر يمضّه ويسكنه هو الذي أهاب به فيما مضى بما كان، وأقامه في حاله الآن بما هو كائن!

لقد تحمل أبو الطيب كبت رغبته في الإفصاح عن سخطه على الأوضاع السياسية والثقافية ومواجهة من يراهم خصوما له في ذلك على ضِدٍّ من طبعه الجامح، مراعاةً لحُلمه “العروبي” (كما يقول محمود محمد شاكر)؛ إنه الحلم باستعادة النفوذ السياسي العربي على الخلافة التي تناوشتها أطماع غير العرب في النفوذ والتسلط على الخلافة العباسية في ذلك الوقت؛ فأخرجت ثقافة سياسية واجتماعية هجينة أنفت منها نفس أبي الطيب الحالم بـ”مروءات العرب وبطولاتهم”، إلا بقية إماراتٍ هنا أوهناك وخصوصا إمارة بني حمدان في حلب والموصل[8]، حيث نجد شعره في أصحابها يتألق بما لا يضاهيه شعره في غيرها ما خلا استثناءات قليلة.

        فكيف كان المتنبي إذن شاعرا ذا قضية؟ وكيف بسط أصحاب هذا “التوجه الثالث” نظريتهم فيه؟

ثالثا، أبو الطيب المتنبي “المناضل”

كانت المرحلة التاريخية التي عاشها أبو الطيب هي أواخر العهد العباسي الثاني وبدايات العهد العباسي الثالث؛ وهي المرحلة التي عرفت انكماش سلطة أسرة بني العباس و”تَغَوُّلَ” غير العرب من فُرس وتُرك على القرار في بغداد، ومعه تراجعت الثقافة العربية بشكلها البدوي الذي تطور في شبه الجزيرة العربية والشام واليمن.

فعلى المستوى السياسي والعسكري خصوصا، نجد أن السلطة المركزية في العراق وما حولها توجد في يد الأسرة البويهية؛ ونجد جزءا مهما من الشام بالإضافة إلى مصر بيد الإخشيديين. ويبقى جزءٌ من الشام مركزه حلب وجزءٌ من شمال العراق مركزه الموصل بيد الحمدانيين إضافة إلى إمارات صغيرة تشبه الإقطاعات متواجدة حول بعض المدن الصغيرة وحول بعض القلاع والحصون بيد أمراء تتوزعهم الولاءات للقوى المجاورة لهم. وهكذا نرى أن قليلا من الأرض المركزية للخلافة (مصر والجزيرة والشام والعراق) ما كان في يد العرب؛ وهم -أي هؤلاء العرب- لم يملكوها إلا من خلال شرعية عسكرية خالصة، كما كان الحال مع بدر بن سيار الفارس الشجاع الذي أخلص أبو الطيب المدحَ له كما في قصيدته التي يصف فيها معركته مع أسد كان في أجمة ينشر الرعب في منطقة نفوذه.[9]

هذه الأحوال تركت في نفس أبي الطيب التواقة إلى المجد والغيورة على الشخصية العربية المحتَضَرة نخوتُها وفروسيتُها[10] لصالح مدنيات مُشْبَعَة بالأثر الفارسي والرومي -خصوصا- أثرا عميقا ورغبة في الثورة. هذا بالإضافة إلى إحساسه الدفين بالضيم حتى من أقرب أقربائه فيما يعرف بقضية أو إشكالية نسبه[11].

لقد كان وراء سعي أبي الطيب الدؤوب وصراعاته الأدبية والسياسية أو شبه السياسية، وصداقاته وخصوماته مع كبراء السياسة والأدب في عصره إلى جانب الدوافع الذاتية التي لا تنفك عن أية تجربة جمالية، دوافعُ موضوعيةٌ مهمة كما يرى أبو فهر رحمه الله في دارسته القيمة عن المتنبِّي وكما يرى آخرون، فما هي هذه الدوافع؟

لقد كان المتنبي في بلاط كافور يُصانع مُكرها أملا في تحقيق حلمه بالإمارة. وقد صرح بذلك غير ما مرة. حيث نجده في إحدى قصائده لكافور يقول:

إذا لَمْ تُنِطْ بي ضَيْعةً أو ولايةً.. فَجودُكَ يَكسوني.. وشُغْلُكَ يَسْلُبُ.

ونجده مرة أخرى في بيت صار مثلا سائرا (وهو من آخر ما أنشده كافورا) يقول:

وفي النَّفْسِ حاجاتٌ.. وفيكَ فَطانَةٌ.. سُكوتي بَيانٌ عِنْدَها وخِطابُ

لقد كان يرى في هذه الإمارة وهو عند كافور (والذي جاءه محبطا بعد فراقه صديقا عزيزا ورائعا مثل سيف الدولة لا لشيء إلا مراعاة لهذا الصداقة أن تعبث بها الوشايات ومكائد القصور) تعويضا عن حلم سياسي عروبي كادت تيأس نفسه من تحقيقه.

وفي عز شبابه رأينا كيف خرج أحمد بن الحسين (وهو اسم أبي الطيب قبل أن يلقب بالمتنبي) إلى بادية السّماوة جامعا الأعراب عليه ساحرا لهم ببيانه نافخا فيهم روح النخوة ليصنع لنفسه أتباعا يتقوى بهم على تحقيق ما تصبو إليه نفسه من مجد. ويبدو أن أمره قد استفحل إلى درجة أن حرك عليه السياسيون الذين يلونهم من جهة السلطة المركزية .. ولما كان أبو الطيب صاحبَ دعوة لا غازيا ولا محاربا فلم يكن من الحكمة ولا السياسة في شيء قمعه بشكل مجاني يزيد من استفحال أمره.. فكانت مواجهته بتسفيه دعوته والتشنيع عليه ونسب كلمات وأقوال معينة إليه -حتى يظهر بمظهر من يدّعي النبوة- أنفع وأجدى.. خصوصا وأن له شاهدا من شعره يعضد الدعاوى عليه في هذا الباب، فقد قال أبياتا في صباه وأول شبابه يشبه نفسه بالمسيح وبنبي الله صالح عليهما السلام (في أسلوب شعري لا يُحَمَّل أكثر مما يحتمل بل هو يعضد المعنى الذي ذهب إليه من سميناهم أصحاب “التوجه الثالث” في النظر إلى أبي الطيب باعتباره ثائرا رافضا للوضع الذي آلت إليه الأمة في ذلك الزمان) .. وذلك حين يقول:

ما مُقامي بأرْضِ نَخْلَةَ إلاَّ *** كمُقامِ المَسيحِ بَيْنَ اليَهودِ

وفي قوله:

أنا في أُمَّةٍ تَدارَكَها اللَّهُ *** غَريبٌ كَصالحٍ في ثَمودِ

فشنعوا عليه بأنه تنبأ، فحُبِسَ مَدَّةً واستُتيب.. ثم أذعن مُصانعا.. ثم خرج في حلة جديدة وفكرة مختلفة.. إذ صار يبحث عن أمير عربي يحقق معه هذا الحلم بعد أن فشل في تحقيقه بنفسه بل وكاد يهلك في سبيله.. (وهذه قضية أسهب أبو فهر رحمه الله في مناقشتها بدلائلها في كتابه الآنف الذكر). وهكذا عمد المتنبي إلى غشيان بلاط الأمراء العرب مثل بدر بن سيار وأبي العشائر الحمداني، ومن بعدهما سيف الدولة الحمداني والذي سيسطر معه ملاحم شعرية خالدة المطالع والمقاطع، وملهمة لأجيال الشعراء وطلاب الأمجاد من بعده ..

أما بدر بن سيار فلن يجد فيه أبو الطيب إلا فارسا مغوارا تياها بسيفه وقوته، غير أن طموحه السياسي لا يتجاوز حدود إمارته وغاية أفق مجده الشخصي ألا ينافسه على إمارته وإقطاعه منافس.. فلذلك مدح المتنبي فروسيته بصدق وإعجاب حيث سيعرف شعره معه تحولا وطفرة أثارت انتباه أبي فهر رحمه الله.. ولكنه سرعان ما سوف يملُّه ليتحول عنه محتفظا بإعجابه به.

غير أن الصورة لن تكتمل في عين أبي الطيب إلا عند لقائه سيف الدولة الذي وجد عنده جمال الفروسية والأنفة من فوت النفوذ السياسي على العرب في دار الخلافة، ومع كل ذلك، الرؤيةَ السياسية الطامحة إلى استعادة المجد العربي السليب، والاتجاه صوب الروم المتاخمين للخلافة الإسلامية مقاومة وغزوا.. ولقد كانت بينهما محادثات تفيد بما يشبه الاتفاق في هذا الشأن وإن لم يذكرها لنا التاريخ، ولكن القائلين بها يستشفونها من خلال أمرين أساسيين:

  • الأمر الأول: عند التأمل في إيقاع الإنتاج الشعري لأبي الطيب إبان مقامه عند سيف الدولة، حيث نجد أن عدد القصائد التي أنشدها إياه لا تتجاوز في الغالب ثلاثا في السنة؛ وهو عدد قليل بالنظر إلى طول المكث، وإلى ما عهدته مجالس الأمراء في ذلك العصر.. وقد أخبرنا المؤرخون بأن أبا الطيب كان يقضي وقته بين القراءة في مكتبة قصر حلب العامرة وصحبة سيف الدولة في كثير من شؤونه العسكرية والسياسية.. فلم يلعب أبو الطيب دور شاعر البلاط فحسب بل كان -بتعبيرنا المعاصر- “مثقف” هذا البلاط والمكَمِّل النظري لمشروع سيف الدولة السياسي والعسكري.
  • والأمر الثاني: وهو أكثر وضوحا.. وذلك أنه بعد مفارقة أبي الطيب لكافور بمدة وكان عهده بسيف الدولة قد تباعد كثيرا (إذ لم يره منذ مفارقته له وقدومه على كافور وإن كانت الرسائل والإشارات الشعرية لم تنقطع بينهما.. وهو الأمر الذي تؤكده قصائد كثيرة أهمها قصيدة رثائه لخولة أخت سيف الدولة -وقد مرت الإشارة إلى قصة حبه لها- عندما جاءه الخبر مراسلة[12])، فكان يلمح إلى شوقه لأهل حلب يقصد سيفَ الدولة وخولة أختَ سيف، ويعبر عن احترامه لهذه الأسرة العربية الصامدة في وجه “الرداءة السياسية” السائدة كما رآها أبو الطيب.. ثم إنه بعد هذا الفراق بسنوات طويلة نجد قصيدة عجيبة[13] توقف عندها الدارسون ﻷبي الطيب وخصوصا منهم أبو فهر رحمه الله، وهي القصيدة التي مطلعها:

فَهِمْتُ الكِتابَ أبَرَّ الكُتُبْ *** فَسَمْعاً لأمْرِ أميرِ الْعَرَبْ !!!

وفي هذه المطارحة الشعرية لا يجد القارئ أثرا لخصومة ولا عتاب بل كأنهما افترقا على مضض لا على خصومة كما هو شائع (وما هو شائع يناقض كثيرا من منطوق شعره الذي يومئ لنا من طرف خفي بعكس ما روجته الأخبار!).. فلما أعياهما ما أرادا (من أمر تمكين العرب في شخص الدولة الحمدانية ومن لفّ لفّها) أحبَّ سيفُ الدولة أن يستدعيه إليه “ليتقاعدا” معا.. فقد كان أمر سيف الدولة قد بدأ يضعف وقلَّ غزوه للروم وأوغل في السّن وبدأت تعاوده الأسقام.. فحين رأى عنتَ صاحبه فيما يلاقيه خلال “سفارته الثقافية” في أقاليم الخلافة، وما يواجهه من كيد -مع أنفته واعتداده، أراد سيف الدولة أن يرفق به، وأن يسترده إليه ليتقاعدا معا ويهنآ بالرفقة في خريف عمرهما وخريف “مشروعهما”. وهذا زعم يقويه التأمل فيما تناقشه القصيدة التي أثبتنا مطلعها قبل قليل، خصوصا في الإشارة السريعة التي يقول فيها “فهمتُ الكتاب” نعته سيف الدولة بعدها بأمير العرب حين قال “فسمعا لأمر أمير العرب“. وقد وقف أبو فهر رحمه الله مليا عند هذه القصيدة واستنطقها استنطاقا بديعا.[14]

بعد ذلك .. سوف يمضي أبو الطيب في طريقه محتفيا بالشعر احتفاءً تمكنت معه تجربته الشعرية من ملامسة آفاق عالية مسكونة بهاجس إنساني عال.. حيث تَطَعَّمَ نَفَسُه العروبي بنفحة “كونية” -إن صح التعبير- نلمسها في قصيدته الرائعة إبان زيارته لإيران ووصفه شِعْبَ بُوان.. وما تلاها من قصائد.. ولكنه ما انفك يحمل في طيات تلك الأعمال غضبا من فشله السياسي المرير وحزنه العميق الذي مبعثه الأساس عدم الاستقرار الاجتماعي والعاطفي بفقدان الزوجة قديما وموت الحبيبة حديثا والاضطرار المستمر إلى الترحال والسفر.. كما أن هذه المرحلة سوف تتميز بظهور الحكمة على لسانه طافحة وهو ما نجده عند كبار المناضلين بعد تجاربهم السياسية والنضالية القاسية فينظرون إلى الحياة بنوع من ازدراء سفاسفها ولكن في حب لها وحض على عيشها بما يليق بالإنسان من قيم مدارها على الحب والعدل والحرية..

لقد أمضى أبو الطيب عمرَه مرتحلا من مكان إلى مكان.. ومن بلد إلى بلد.. كالظامئ المتعطش إلى الورد العذب السلسبيل. ولو كان سؤله المال والجاه لتيسّر له عند ملوك الأرض الذين وَصَلوهُ بأسباب الود والتملق، ولكنه كان يصانع في غير ما إخلافٍ مع نفسِه بوصلتَه، ولا إغفال لها عن وِجهَتِها.. فإذا ما طال به المُكثُ ويئس من المقصود، ثار ثورته التي مَيَّزَته عن جُلِّ الشعراء، وتحول عن هؤلاء الملوك والأمراء يلاقي الهجير بصدر مشتاق للانعتاق مصداقا لقوله الذي ذكرناه آنفا:

ذَراني وَالفَلاةَ بلا دَليلٍ *** وَوَجْهي وَالهَجيرَ بِلا لِثامِ

فإنِّي أسْتَريحُ بِذا وَهَذا *** وَأتْعَبُ بالإناخَةِ والمُقامِ

وما كان له أن يكون كذلك لو كان طالبا للعيش الهنئ البارد دون المجد العلي الباهر كما عبر عنه بنفسه في مجلس سيف الدولة في إحدى روائعه التي خلد بها أمجاد الحمدانيين حيث يقول:

أُحِبُّكَ يا شَمْسَ الزَّمانِ وَبَدْرَهُ *** وإنْ لامَني فيكَ السُّهى والْفَراقِدُ

وذاكَ لأنَّ الفَضْلَ عِنْدَكَ باهِرٌ *** ولَيْسَ لأنَّ الْعَيْشَ عِنْدَكَ بارِدُ

فإنَّ قليلَ الحُبِّ بالعَقْلِ صالِحٌ *** وإنَّ كَثيرَ الْحُبِّ بالجَهْلِ فاسِدُ

إن قصة أبي الطيب المتنبي هي في مجملها قصة العلاقة القلقة بين المثقف في أحلامه بالتغيير وتطلعاته للأفضل، والسلطة في عقباتها الذاتية وإكراهاتها الموضوعية.. وبين سلطة الفكر وفكر السلطة كان القلق المزمن الذي أخرج لنا شاعرا ملأ الدنيا وشغل الناس، وأعنت زمان الشعر والشعراء أن يقولوا بمجاوزته لأنه نطق بما يجدون وتكلم عما يحسون..

       ختاما.. نحو الخلود

غادر أبو الطيب عضد الدولة وهو من آخر الكبار الذين نزل عندهم وصدق في مدحهم بالرغم من أنه لم يكن عربيا.. ووجد فيهم مناطا للتعبير عن أشواقه القيمية والجمالية العالية.. وفي وداعه جَمَعَ ما في نَفْسِه من نَخْوَةٍ وشجاعة وحكمة، وما فيها من خيبات وحسرات.. وزوى متفرقات الكلام في شأنه، ولَخَّصَ نظرَتَه إلى الحياة التي عاشها طولا وعرضا.. وتقحم صعابها “غير مكترث ما دام يصحب فيه روحَه البدنُ“.. فقال:

وأنَّى شِئْتِ يا طُرُقي فَكوني: أذاةً.. أو نَجاةً.. أو هَلاكا..


[1]شطر بيت من قصيدة في مدح بدر بن سيار مطلعها: “بقائي شاءَ ليسَ هُمُ ارتحالا

[2] هي المجموعة الشعرية المعنونة بـ:  “هي أغنية .. هي أغنية

[3] ابن رشيق القيرواني في كتابه “العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده” تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد / ص:100 – طبعة (5) – دار الجيل

[4] شاعت القناعة بأن أبا الطيب هو ابن عيدان السقّاء.. معتمدين في ذلك أساسا على بيتٍ هُجٍيَ به المتنبي في بغداد بعد أن استنكف من مدح بعضهم، فأغروا به الشعراء، فقال قائلهم : “لكن بغدادا رعى الله ساكِنَها .. نِعالُهم في قفا السَّقَّاء تَزْدَحِمُ” وقد ردَّ على هذه الإشاعة التي صارت بمنزلة الحقيقة التاريخية أبو فهر محمود شاكر رحمه الله خصوصا في كتابه “المتنبي“.. أنظر محمود محمد شاكر “المتنبي – رسالة في الطريق إلى ثقافتنا” ص:158 \ مطبعة المدني القاهرة

[5]   إسحاق إبراهيم بن كيغلغ هذا كان محافظا على طريق طرابلس؛ فطلب من المتنبي أن يمدحه فاحتج أبو الطيب بأنه حلف ألا يمدح أحدا في الطريق. فسد إسحاق الطريق دون المتنبي، فهجاه المتنبي وترك القصيدة عند من يأتمنه. فلما ذاب الثلج وخف عن لبنان، خرج أبو الطيب كأنه يُسَيِّرُ فرسه فسار إلى دمشق، فأتبعه ابن كيغلغ خيلاً ورجلاً فأعجزهم أبو الطيب. وقصيدته الهجائية القاسية هذه مطلعها: “لهوى النُّفوسِ سَريرَةٌ لا تُعْلَمُ

[6]   أنظر: طه حسين – “مع المتنبي”

[7]   وعلى رأسهم الأديب المحقق أبو فهر محمد محمود شاكر رحمه الله صاحب أهم الدراسات التي كتبت حول أبي الطيب. كتبها سنة 1936م لمجلة المقتطف بمناسبة الذكرى الألفية لأبي الطيب. وعلى منواله نسج غيره وإن كانوا في عداد أساتذته مثل: طه حسين وعبد الوهاب عزام

[8]   تأمل هذه الأبيات:

     وَإِنَّما الناسُ بِالمُلوكِ.. وَما تُفلِحُ عُربٌ مُلوكُها عَجَمُ

     لا أَدَبٌ عِندَهُمْ وَلا حَسَبٌ.. وَلا عُهودٌ لَهُمْ وَلا ذِمَمُ

     بِكُلِّ أَرضٍ وَطِئتُها أُمَمٌ.. تُرعَى لِعَبدٍ كَأَنَّها غَنَمُ!

[9]   والتي يقول في مطلعها: “في الخَدِّ أَن عَزَمَ الخَليطُ رَحيلاً” ويبتدئ وصف النزال قائلا:

                              “أَمُعَفِّرَ اللَيثِ الهِزَبرِ بِسَوطِهِ.. لِمَنِ اِدَّخَرتَ الصارِمَ المَصقولا؟

[10]  من أهم القصص التي وثقها شعره في هذا الباب، أنه مرَّ يوما برجلين قد قتلا جرذا وأبرزاه يعجبان الناس من كبره فقال:

     لقد أصبح الجرذ المُستَغيرُ.. أسيرَ المَنايا صَريعَ العَطَبْ

     رماهُ الكِنانيُّ والعامِرِيُّ.. وتلاَّه للوجهِ فِعْلَ العَرَبْ!

[11]  وقد قال شعرا في غير ما مناسبة للتنفيس عن هذا الأمر. ولعل من أهمه قوله:

     أنا ابنُ مَنْ بعضُه يفوقُ أبا الباحِثِ.. والنَّجْلُ بَعْضُ من نَجَلَهْ

     وإنَّما يَذْكُر الجُدودَ لهم.. مَن نَفَروهُ وأنْفَذوا حِيَلَهْ

[12]  وفي ذلك يقول :

     طوى الجزيرة حتى جاءني خبرٌ // فزعت فيه بآمالي إلى الكذب

     وهو بيت من القصيدة الرثائية التي مطلعها:

     يا أخت خير أخ يا بنت خير أب // كناية بهما عن أكرم النسب

[13]  أنشد هذه القصيدة سنة 353هـ وهو بالكوفة.. وكان آخر إلقاء له بحضرة سيف الدولة سنة 345 هـ

[14]  أنظر “المتنبي-رسالة في الطريق إلى ثقافتنا” – محمود محمد شاكر ص :330و331 و377 / مطبعة المدني القاهرة

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version