بلال الداهية
ومما يؤكد صفة الملجأ للغرباء بالنسبة لقبيلة بني ليث أن بها عائلات جاء أسلافها من أصقاع بعيدة، وأبعد مثال على ذلك وجود ضريح ولي صالح يدعى “سيدي عبد المؤمن”، وهذا الرجل المدفون في غابة قرب مدشر “الحيوط” تكشف الوثائق الموجودة عند ذريته، والتي وقفت على بعضها، أن أصله من الديار المصرية، وأن اسمه عبد المؤمن بن عيسى العشيبي وأنه من قبائل أولاد علي، وبيد أحفاده ظهير إسماعيلي قديم، ولا زالت الروايات الشفهية تؤكد أن هذا الرجل دخل المغرب في العهد الإسماعيلي.
وهذه القرائن كلها تؤكد أن “سيدي عبد المؤمن” هذا من “العشيبات” كما يدل لقبه الموجود في الرسوم القديمة التي بيد أحفاده (العشيبي)، والعشيبات فعلا بطن من أولاد علي الأحمر من أعراب “السعادي” من الكعوب من بني سليم بن منصور، وهم الذين سماهم ابن خلدون أولاد ذيب بن أبي الليل. والمعروف أن عرب بني هلال وبني سليم خرجوا من صعيد مصر نحو بلاد برقة وطرابلس الغرب وامتدادا منهما إلى المغرب الأقصى، ولكن قبائل بني سليم تحديدا بقيت في الغالب مستقرة في أراضي الجمهورية الليبية حاليا، ومنها قبائل السعادي هذه، ثم حدث منذ العهد المملوكي أن هذه القبائل الليبية بدأت هجرة عكسية تجاه مصر. وكانت قبائل أولاد علي من السعادي من هؤلاء المهاجرين من برقة نحو ديارهم الحالية الممتدة من عقبة السلوم ف”سيدي براني” قرب الحدود الليبية المصرية إلى بلاد مرسى مطروح وإقليم البحيرة حتى ثغر الاسكندرية شرقا.
إلا أن التحقيق في تاريخ قدوم عبد المؤمن بن عيسى إلى بلاد بني ليث، والذي تؤكد الروايات أنه كان في العهد الإسماعيلي، أي بين 1672 و1727م، يجعلنا نستنتج أن هذا الولي هاجر من بلده الأصلي ربما فرارا من “تجريدة حبيب” وهي الحرب الشهيرة التي لا زالت ترويها الملاحم والأشعار البدوية في ليبيا وغرب مصر والتي حدثت بين قبائل الحرابي بزعامة “العبيدات” وقبائل السعادي بزعامة “أولاد علي” وانتهت بانتصار الحرابي وطرد السعادي نحو مصر كما قدمنا، وإذا كانت الملاحم والأشعار لا تحدد تاريخ هذه الحرب، مما جعل البعض يعيدها إلى القرن التاسع عشر الميلادي، فإن الدراسة الأعمق التي قام بها الإيطالي إنريكو دي أغوسطيني في كتابه “سكان ليبيا” قد حدد تاريخها بحوالي 1670م، وهو التاريخ القريب من هجرة عبد المؤمن نحو المغرب.
تذكر الروايات الشفهية أن عبد المؤمن كان شاذلي الطريقة، وأنه دخل المغرب قاصدا التعرف على قبر عبد السلام بن مشيش، وهذا السبب الذي جعله يختار أرض بني ليث لينزل بها، وتزوج امرأة من أولاد “ابن شلوط” وهم من أقدم سكان القبيلة على الإطلاق، ويزعمون أن من كراماته أنه أصابت البلاد مسغبة عظيمة، وكان الولي منعزلا في خلوته غاضبا من أهل بني ليث لأمر أنكره عليهم، فجاؤوا يعتذرون إليه ويلحون عليه في أن يدعو الله لتمطر السماء عليهم، فكان أن سعى بين داره وضريح ابن مشيش في جبل العلم مرتين ذهابا وإيابا، وهو يتلو: “قل أرايتم إن أصبح ماؤكم غورا”. الآية. فأمطرت السماء مطرا غزيرا، وعمت البركة في الزرع والضرع في عامه ذلك.
من الغرباء الذين لجؤوا إلى بني ليث عائلة الهبطيين القادمة من ناحية أصيلا، وكانت هذه الأسرة تنتسب إلى الشرف فحكم النقباء والقضاة ببطلانه، وربما كان الغزو البرتغالي لأصيلا وجبل حبيب سببا في هجرتهم. ونفس الأمر ينطبق على عائلة “أطنجي” التي هاجرت بعد سقوط طنجة في يد البرتغاليين. ومن الطريف أن تجد في هذه القبيلة ثلاثة مداشر بأسماء مدن مغربية هي: “اوجادة” ويلقب سكانه ب”الوجدي”، ثم “أطينجة” ويلقب سكانه ب”أطنجي”، ثم مدشر “زيلاون” وربما كان النسبة إلى المهاجرين من “أزيلا” أي “أصيلا”، وبه أولاد “الهبطي” المذكورون منذ القدم. كما لا تخلو القبيلة – على صغر مساحتها – من السرغينيين المهاجرين من قلعة السراغنة، ومن البقاليين الذين يطلق على تجمعهم السكاني لفظ “دار البقال”.
ومن المؤكد أن بعض الأندلسيين هاجروا أيضا نحو قبيلة بني ليث، ومن بين الأسر التي اشتهرت بذلك أولاد “ابن تميم” ويعرف موطنهم ب”إتميمن” ومنهم جم غفير ب”تاينزة”، وأولاد “ابن عياد” المنتقلون من جارتهم بني حزمار في “إعيادن”، وأسرة “شهبون” في “إشهبونن”، و”حكمون” الذين يوجد امتدادهم في بني مصور، و”عبدون” في “إعبدونن”…
الصورة لضريح عبد المؤمن بن عيسى العشيبي في شهر نونبر 2017. والضريح كان مبنيا بالكامل ثم تصدع بناؤه قبل بضعة عقود فقط، فأحيط بالحجارة على صورته الحالية.