محمد بوزيدان
رافعين هذه العبارة الدالة والمؤثرة تظاهر الآلاف من المواطنين القادمين من مختلف المدن الإسبانية أمام مقر الحزب الاشتراكي العمالي بمدريد لدعم رئيس حكومتهم بيدرو سانشيز، الذي هدد بالاستقالة من منصبه برسالة مكونة من أربع صفحات وجهها لشعبه عبر منصة “إكس” ـ تويتر سابقا ـ يوم الأربعاء 24 أبريل 2024، بعد رفع دعوة قضائية ضد زوجته بيغونيا غوميز متهمين إياها باستغلال النفوذ وتضارب المصالح.
لماذا خرج الشعب الإسباني بكافة مكوناته السياسية والمدنية ـ باستثناء اليمين ـ لثني رئيس حكومته عن الاستقالة من منصبه؟ ولماذا نظم فعاليات مجتمعية كثيرة ومتنوعة لم تقتصر فقط على المظاهرات لدعم سانشيز، علما أن بعض المتظاهرين لم يصوتوا عليه ولا ينتمون إلى حزبه؟
يُذكرنا هذا الأمر بالمحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا يوم 15 يوليوز 2016، حيث قام مجموعة من ضباط القوات المسلحة التركية بمحاولة الاستيلاء على الحكم من خلال بث بيان بعد سيطرتهم على قناة تي أر تي الرسمية التركية، والذي تضمن حظر التجول وإغلاق المطارات. انتفض الشعب التركي بكافة مكوناته على المنقلبين وقدم ضحايا في سبيل ذلك، وعبّرت الأحزاب السياسية عن رفضها للانقلاب، حيث قال زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض بأن: “تركيا عانت من الانقلابات، وأننا سندافع عن الديموقراطية”.
فَهم الإسبان صرخة رئيس حكومتهم وهو يخاطبهم من خلال رسالته الموجة إليهم، حين قال: هل الاستمرار في رئاسة الحكومة يستحق كل هذه التضحيات؟ مشيرا إلى الحملات الإعلامية المغرضة التي تعرض لها هو وأسرته طيلة عشر سنوات، تَوجتها تلك الدعوة القضائية الهادفة إلى القضاء على المستقبل السياسي لسانشيز عن طريق وأد مسيرة عملية ناجحة لزوجته واتهامها بما ليس فيها.
لم يقل الإسبان أن هذه معركة سياسية بين اليمين واليسار حول من يحكم البلاد، ولم يعلنوا أنهم غير معنيين بصراع الديكة، وأن حرية الإعلام تقتضي ترك الصحفي يقوم بمهمته بكل استقلالية بعيدا عن أية رقابة، أو أن القضاء سيد نفسه ولا يجوز لنا التدخل في قضية معروضة عليه. لم يقولوا هذا لأنهم يعلمون أن القُضاة بشر قد يصيبوا ويخطئوا، وأن اليمين مُسيطر على كافة مفاصل الجسم القضائي الإسباني وأوله المجلس الأعلى للسلطة القضائية الذي استمرت معركة تعيين أعضائه لشهور وأدت إلى بلوكاج قضائي في إسبانيا، والمجلس الأعلى للسلطة القضائية هو الهيئة المكلفة بتعيين القضاة على صعيد التراب الإسباني.
جزء كبير من الإسبان مقتنعون أن اليمين الإسباني حينما يفشل في الوصول للحكم عن طريق الانتخابات فإنه يستخدم أذرعه الإعلامية والقضائية لتصفية خصومه عبر الضرب تحت الحزام.
لذلك طالب سانشيز في كلمته التي ألقاها يوم الاثنين الماضي 29 أبريل 2024 والتي أعلن فيها استمراره على رأس حكومة بلده، بإصلاح القضاء والإعلام المتهم بالخضوع لليمين ونشر الأخبار الزائفة، وتحدث عن وجود أزمة في الديموقراطية الإسبانية ودعا لضرورة تجديدها.
وجه سانشيز كلامه مباشرة للشعب الإسباني مطالبا إياه بحماية ديموقراطية بلده، مشيرا إلى أن الأمر لا يتعلق باختلاف وجهات نظر سياسية، بل بتغيير قواعد اللعبة الذي يهدد استقرار البلاد السياسي والأخلاقي. وفي هذا إشارة قوية لدور الشعب في متابعة الحياة السياسية وتقويم اعوجاجها، فالسماح بالهجوم على الحياة الشخصية للسياسيين هو تدمير للذات الذي لا تُعلم عواقبه.
أكبر الخاسرين في معركة سانشيز بعد اليمين الذي لازالت غصة عجزه عن تشكيل الحكومة رغم فوزه بالانتخابات الماضية بفارق ضئيل، هو إعلام التشهير والمزايدات الذي افتضح أمره، ونال ما يستحقه من الإسبان الذين دعوا لمقاطعته، وسحب الإعجاب به في منصات التواصل الاجتماعي. كما خسرت التيارات المؤيدة لجرائم غزة بعد تمنيها الإطاحة بسانشيز الذي ندد بمجازر الاحتلال عبر منصة معبر رفح ودعا إلى الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة، وشجع بعض الحكومات الأوربية على ذلك، فاعتبر التيار المتصهين أن سانشيز يشكل خطرا على “إسرائيل” لم تبلغه حتى بعض الدول العربية.
وفي هذا الإطار ولكي يثبت سانشيز وحزبه الاشتراكي على موقفه من القضية الفلسطينية، سانده رئيس الحكومة السابق، الاشتراكي خوسي لويس ثاباطيرو الذي قال أمام وزير خارجية بلده: بأنه يعتز بقرار الحكومة الإسبانية القاضي بالاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة.
يبدو أن الاشتراكيين الإسبان كزملائهم في بعض دول أمريكا اللاتينية لازالوا يحتفظون بجينات اليسار الحقيقية التي تناصر المظلوم وتدعو لاحترام الإنسان مهما كانت ديانته وعقيدته.
لا شك أن سانشيز عاد بقوة أكبر مما كان عليه قبل هذه المحطة، كيف لا وهو يرى استفتاء شعبيا يناصره ويدعمه، ويمرغ أنف اليمين الذي اتهمه بلعب دور الضحية والمنتصر حديثا في الانتخابات في التراب، ويُسفه دعاويه، ويُقوض سعيه لاستغلال مؤسسات الدولة لتصفية حسابات سياسية.
في إحدى المظاهرات صرحت مواطنة إسبانية بسيطة بعد سؤالها عن سبب تظاهرها وما هي مطالبها، وهي المرأة التي سافرت من مدينتها وقطعت الكيلومترات كي تناصر ما تعتقده صحيحا، قالت المرأة:
” نحن هنا لأن هذا انقلاب ينفذه القضاء وأقصى اليمين الذي لا يسمح لليسار بالحكم، ونحن هنا أيضا من أجل فلسطين التي يؤلمنا وضعها وما آل إليه حال الشعب الفلسطيني، إن بيدرو سانشيز هو السياسي الوحيد الذي تحرك لفلسطين، والذي يقع في فلسطين يدمي قلوبنا”.