عبد السلام المنصوري
1- لا ننتظرُ من “السّنوار” أن يكتُبَ عملا روائيا مُحترفا، تتوفـر فيه شروط الفـن الرّوائي ومقوماته، ولا نتوقـع من بطل المقاومة أن ينشغلَ بقضايا السردية الحديثة من تحبيك وتبئـير وبناء للشخصيات.. الخ فالحبكةُ الحقيقيّةُ إنما يصنعها “السنوار” بهذه العمليات المُركّبة والمعقدة على أرض غـزّة ضد الصّهاينة، والشخصيات التي يبنيها “السّنوار” إنما يعجنُها من تراب غزّة ومائها لتُقدّمَ لنا نماذجَ بشريّة لم تعرف الرّوايةُ لها مثيلا من قبل.. والمكانُ الحق عند “السّنوار” هو هذه الأنفاقُ المدهشة في باطن الأرض، التي تراحبت أمام المُقاتلين على ضيقها فوَسِعتهم جميعا ومعشوقتهم الحرية.. والزمان عند “السّنوار” هو زمانٌ سرمديٌّ مفارق، زمانُ الغيب والخلود.. بل إن “السّنوار” لا ينتمي إلى عصر الرواية الحديثة حيث الفرديّةُ الطّليقةُ تُغالِبُ قدَرها وتبحثُ عن خلاصِها، بل ينتمي إلى عصر المَلاحم الكبرى، والأبطال العظام الذين يُعبّرون عن “صوت الجماعة” وآمالها وفعلها في التاريخ.. غير أن هذه الاعتبارات المُتعَالية جميعا، لا ترفعُ حقيقةً راسخةً وهي أن “يحيى السّنوار” كتب روايةً تستجيبُ للكثير من شروط الفن الروائي بمعناه الحديث، ببنائها المُترابط، ولغتها الأنيقة، وسردها المُنساب..
2- تحكي الرّواية قصّة أسـرةٍ فلسطينيّة تعيشُ بمخيّم الشاطئ ظروفا قاسية ومعاناة شديدة، حيث تفقـد المُعيل والسند (الأب والعم في الوقت نفسه)، لتواجه الحياة بصدر عار وظهر مكشوف، لكنها مع هذا الوضع لا تراهنُ على خلاصِها الفردي، بل تحملُ في قلبها هـمّ وطن بكامله، فتجمع بين التعليم والحصُول على الشواهد العليا، وبين مُقاومة الاحتلال الصهيوني بالانخراط في العمل الفدائي، ويتعرض أفراد الأسرة (كما الأسر الفلسطينية) لكافة أنواع الظلم والقهر على يد الاحتلال الصهيوني، من اعتقال وتعذيب ومداهمات ليلية، غير أنهم من هذا الليل البهيم، يجترحون أوقاتا للفرح والحلم، فينجحون في التعليم، ويعشقون ويتزوجون وينجبون.. وينتمي إبراهيم (بطل الرواية) إلى حركة “حماس” ويقوم بأدوار بطولية في تنظيم العمل الفدائي إلى أن يرتقي مع آلاف الشهداء في معركة التحرير.. وإذا جاز لنا أن نبحث عن المقابل التخييلي للسّنوار في الرواية، فهو ليس السارد “أحمد الصالح” كما قد يتوهم القارئ، بل هو بطل الرواية “إبراهيم الصالح” الذي انتمى إلى “حماس” مبكرا، ونشأ تحت أعين المجاهد “أحمد ياسين”، واعتقل مرات وتعرض للتعذيب، وكان يجيد العبرية، علاوة على بطشه بالخونة والجواسيس ولو كانوا من المقربين له.. وهذه كلها إشارات تتقاطع مع حياة “السّنوار”، مع حضور الجانب التخييلي في تصوير استشهاد البطل للتأكيد على أن المقاوم منذور للشهادة وليس للحياة..
3- تعالجُ الرّوايةُ الكثيرَ من الظواهر الخطيرة في تاريخ الكفاح الفلسطيني، بدءا من النكبة الكبرى عام 1948 إلى حدود انتفاضة 2000. منها قضية “العمالة الفلسطينية” في الأرض المحتلة، وهذا التمزق العنيف بين طلب لقمة الخبز وبين الإسهام في بناء دولة الاحتلال!! وتصور في مشاهد قاسية كيف كان المقاومون يُمزقون تصاريح العمل ويمنعون العمال من دخول الأراضي المحتلة وهم يبكون!! ومنها قضية التعايش مع اليهود المحتلين من طرف فئات واسعة من الفلسطينيين، الذين قايضوا رفاههم الشخصي بضياع وطن بكامله!! ومنها قضية العملاء والجواسيس الذين كانوا ينتشرون كالفطر، واستطاعت إسرائيل من خلالهم اغتيال قادة المقاومة!! وتصور كيف كان يُنكل بهم المقاومون ويقتصون منهم حين يكشفون!! ومنها جانب التكافل المدهش بين فئات الشعب الفلسطيني وكأنهم أسرة واحدة رضعت لبنا واحدا، حيث تتعالى مظاهر الإيثار والتضحية وكافة القيم الإنسانية النبيلة..
4- تؤرخ الرواية بلياقة سردية عالية، لأهم حدث عرفه تاريخ الكفاح الفلسطيني، وهو ظهور المقاومة الإسلامية وتأسيس “حماس” على يد الشيخ أحمد ياسين، وتصور البدايات الأولى للحركة حين كانت تهتم بالعمل الدعوي والاجتماعي، والمعارضة الشديدة التي لقيتها من باقي الفصائل خاصة “فتح”، وصلت لحد اتهامها بالجبن والخيانة.. ثم كيف انخرطت في المقاومة تدريجيا إلى أن أصبحت الفاعل الأول في حركة المقاومة ومعركة التحرير، ثم تتوالى الأحداث بسرعة بعد اتفاق “أوسلو” ليتحول مناضلو الأمس إلى شركاء للصهاينة في عملية السلام!! ويرفعون أحقر شعار في تاريخ الكفاح الفلسطيني وهو شعار التنسيق الأمني مع العدو الصهيوني!! وتتحول “حماس” إلى قوة ضاربة في المقاومة بعمليات نوعية أرغمت الاحتلال على الخروج من غزة.. وتمكننا الرواية بهذا الرصد من فهم الكثير من الأحداث التي استجدت بعد “طوفان الأقصى” خاصة الموقف المخزي والذليل لحركة “فتح” والسلطة الفلسطينية من حرب الإبادة الشاملة للشعب الفلسطيني..
5- على خلافِ معظم الروايات الفلسطينية التي تميلُ إلى تبئير الأحداث، من خلال التركيز على مُعاناة الشعب الفلسطيني، وتصوير الاضطهاد والتهجـير والقتل الجماعي الذي تعرض له الشعب الفلسطيني، بالقدر الذي يكشف عن وضع شعب طاعن في المأساة.. (مثلا: باب الشمس، الطنطورية، التغريبة، بينما ينام العالم..) تأتي رواية “الشوك والقرنفل” مكتوبة بعنفوان مقاوم بطل، وجسارة قائد مجاهد، يجعل من بؤرة الأحداث “أفعال المقاومة”.. فالبطل الرئيسي في الرواية إبراهيم، هو مقاوم كبير من التيار الإسلامي ومعظم شخصيات الرواية هم مقاومون أشداء، نفذوا عمليات ضد العدو في عقر داره. من هذه الشخصيات “عماد عقل” والمهندس “يحيى عياش”.. وتوثق الرواية بدقة تاريخية للكثير من هذه العمليات، وقد تتحول الرواية في كثير من الأحيان إلى شهادات تاريخية ونقل توثيقي لهذه العمليات.. وهكذا فإن الحزن الذي كان يصاحبنا عند قراءة الرواية الفلسطينية يتحول مع رواية السّنوار إلى الكثير من الفرح والفخر.. والإكبار لهؤلاء الأبطال..
6- تُحقق الرواية “مَحفلها السردي” بالكثير من الكفاءة واللياقة السّردية، حيث تتقاطع أصواتُ ورؤى الشخصيات وتتداخل أحيانا، وتتعارضُ وتتصارع في أحايين كثيرة، محققة تعدد الأصوات” والرؤى، أو ما أسماه باختين “الرواية البولوفينية”.. فأفراد أسرة “الصالح” بعضهم ينتمي إلى التيار الإسلامي حماس (أحمد، إبراهيم، حسن) وبعضهم ينتمي إلى منظمة التحرير الفلسطينية (محمود) وفي كل مساء بالمنزل تحتد أصواتهم وتتعالى سجالاتهم، كل واحد يدافع عن وجهة نظره إلى أن تتدخل الأم لتحسم الجدل المنذر بأسوأ العاقبة.. وتصل هذه السجالات ذروتها مع توقيع اتفاق “أوسلو” ورفض حماس لهذه العملية برمتها، والاتهام المتبادل بالتخوين والتواطؤ، ومساهمة أمن السلطة في اعتقال المقاومين تحت شعار التنسيق الأمني!! وهو ما يقربنا أكثر لفهم تعقيدات القضية الفلسطينية والباب المسدود الذي وصلت إليه “عملية السلام” !!
7- تعاني الرواية على المستوى الفني من آفتين: آفة السارد من جهة، وآفة البناء الفني من جهة ثانية. فأحداث الرواية تأتي على لسان السارد “أحمد الصالح” مذ كان صغيرا عمره خمس سنوات، وتنمو الأحداث وتتشعب، بنمو السارد وانخراطه في قضايا وطنه ومقاومة شعبه، غير أن صوت السرد لم يتغير ولم يعكس تحولا في الوعي ولا في زاوية النظر، فهو مذ كان طفلا يسرد بالطريقة نفسها ويتدخل في تفسير الأحداث ويحكي أشياء لم يكن شاهدا عليها فضلا عن قصور وعيه الطفولي عن تعليلها.. كما يمزج الروائي بين منظور “السارد المشارك” في الأحداث وبين منظور “السارد العليم” الذي يعرف جميع ما حدث ويحدث، وهذا أفقد العمل قوة الإقناع الفني..
أما من ناحية البناء فالرواية تنحو منحى السرد الخطي، بحيث يُطابق بين عمر الرواية وعمر السارد، وهذا ما جعلها تأخذ شكل “المحكي الذاتي” الذي يعرض الأحداث في تسلسها التاريخي من زاوية نظر السارد الذي عاشها، وهو ما جعل الرواية مدبوغة بالطابع التوثيقي والتاريخي، وأفقدها الكثير من الجمالية الفنية..
وأخيرا، إن غاية ما يتمناه القارئ عند انتهائه من الرواية، أن يُقـدّر للسنوار بعد انتصار المقاومة أن يكتب رواية عن “طوفان الأقصى” وما تلاه من أحداث جسام.. وعن حياة هؤلاء الأبطال الذين خرجوا من الأنفاق ليقدموا للعالم وعدا بالحرية..