بلال الداهية
إلى جانب ما ذكره البكري بخصوص متنة، فإن قرائن أخرى تشهد بأن هذه القبيلة تنطبق على جبل حبيب الحالي، منها وجود عائلة “المتني” إلى حد الآن في هذه القبيلة بالذات، ومنها أيضا ما ورد في ترجمة الإمام الهبطي صاحب زاوية المواهب بجبل بني زجل من بلاد غمارة، كما يأتي لاحقا، وقد ذكر مترجموه أن أصل سلفه من طنجة، وأنهم هاجروا منها إلى جبال غمارة بعد الاحتلال البرتغالي سنة 1471. وتسترسل كتب التراجم في وصف نسب الهبطي قائلة إنه عرف ب”الصنهاجي” أو “المتني” نسبة إلى “إيمتنان” أو “متنة” من صنهاجة مما يلي طنجة ناحية الجنوب. ومن اللافت أن قبيلة جبل حبيب في “حائطها السفلي” لا زال بها إلى الآن مدشر يدعى “اهباطة”، أي “الهبطيون”.
اختفى اسم متنة نهائيا من المصادر مباشرة بعد الغزو البرتغالي، ولم يبق من أثره بعد ذلك إلا اسم “قلعة متنة” وهو الاسم القديم ل”الفنيدق” Castillejos بجوار سبتة، ولا نعلم تحديدا متى ولا كيف انتقل فريق من متنة ليقيموا على ضفاف البحر الأبيض المتوسط بجوار سبتة، إلا أن هذا الانتقال قديم وسابق الغزو البرتغالي بقرون.
أما منطقة جبل حبيب فلم تعد تعرف إلا باسم القائد حبيب بن أبي عبيدة المدفون في أعلى قممها، واختفى منها أي اسم آخر ابتداء من فترة الغزو البرتغالي. ومما أشار إليه الوزان ومارمول كربخال أن هذا الجبل به ستة أو سبعة قصور فقط، وأن سكانه أصلهم من أهل طنجة الذين غادروا المدينة بعد سقوطها، إلا أنهم لم يهنؤوا بالعيش في الجبل لمعاناته من الغارات البرتغالية، خاصة في الفترة المتأخرة التي تلت سقوط طنجة، حيث لم تتوقف نهائيا غارات جنود أصيلا عليه، وكلما حدثت غارة من هذه الغارات إلا وصاحبها نهب لأعداد هائلة من رؤوس المواشي وغلال الزروع والثمار كما يرد بشكل متكرر في حوليات برناردو رودريكيس Bernardo Rodrigues.
أمام هذه الغارات المتكررة، اضطر سكان القرى إلى اللجوء نحو أعلى الجبل بجوار ضريح “سيدي حبيب”، والاعتصام في قلعة قديمة هي “قلعة الخروب”.
بنيت هذه القلعة في القرون الهجرية الأولى، إلا أننا لا نملك معطيات حول بانيها، ذكرها البكري في مسالكه وممالكه وسماها “قلعة ابن خروب”، إلا أن ما هو مؤكد حسب رواية الأخير أن أهلها كانوا من كتامة. وكانت أهميتها بالغة حسب وصفه، إذ كانت منزل التجار المتنقلين بين طنجة وفاس، أو بين طنجة وسبتة. كما استخدمت برجا للمراقبة إذ يظهر بحر الزقاق من أعلاها. واستمر دورها كذلك إلى عهد الأمير صالح بن صالح الذي كان آخر حكام سبتة قبل سقوطها، والذي وصفه ابن عزوز حكيم ب”العزيفي” بناء على تقييد الشراط الذي نشره كاملا، بينما وصفه حسن الفيكيكي ب”الياباني” بناء على المصادر البرتغالية، و”العزيفي” نسبة إلى العزفيين أمراء سبتة، أما بخصوص “الياباني” فبنو يابان بطن كبير من بطون بني مرين. وكان صالح بن صالح بعد خروجه من سبتة وسقوطها في يد البرتغاليين قد عين حاكما على طنجة وأصيلا، فبنى قصرا بجوار قلعة الخروب هذه عام 844 هـ/ 1440م وخصصه لسكنى حريمه.
وعلى يد صالح بن صالح تأسست بقلعة الخروب إمارة صغيرة تابعة لنائب طنجة كان رئيسها الأول أبو جمعة الحسن بن محمد العلمي، الذي اتخذها قاعدة للغارة على برتغاليي سبتة وقصر المجاز، إلى أن استشهد بعد ذلك في قتالهم، ثم سقطت طنجة نفسها وأصيلا في يد البرتغاليين، فأصبحت قلعة الخروب تابعة لبني راشد أمراء مدينة الشاون.
تثبت المصادر البرتغالية غارات جنود أصيلا على أربعة قرى من جبل حبيب وهي “الجبيلة” و”دار قشايش” و”القليعة” و”الريحانة”. وكان الغزاة يستعينون دائما بأبناء هذه الجبال المتنصرين، وتحتفظ حوليات برناردو رودريكيس بأسماء العديد منهم، واشتهر من جبل حبيب شخص كان يدعى Alatax ولعلها “العطاش”، وقع أسيرا بيد البرتغاليين فتنصر وسمى نفسه أرتور رودريكيس Artur Rodrigues، وكانت نهايته قتيلا على يد أهل قبيلته الأصلية عام 1530. ومنهم أبناء قبائل أخرى كشخص من بني مصور سمى نفسه مانويل كوتينيو Manuel Coutinho خلف المرتد السابق في عمله، وشخص آخر من بني كرفط كان يعرف ب”الفكاك” وسمي بعد تنصره “غونزالو فاز” Gonzalo Vaz وكانت نهايته أيضا قتيلا بعد أسره من طرف بحرية المنظري في تطوان عام 1517. ولعل أشهر هؤلاء المرتدين ممن كانت لهم دراية جيدة بجبل حبيب فساعد البرتغاليين في غزوه متنصر من مدشر “الصخرة” ببني كرفط سمى نفسه ديوكو دي سيلفييرا Diogo de Selveira.
منذ انتقال جبل حبيب إلى نفوذ أمراء الشاون دأب هؤلاء على تعيين مقدم على قلعة الخروب، وقد احتفظ صاحب “حوليات أصيلا” بأسماء هؤلاء المقدمين منذ عام 1508، فأولهم اسمه علي ويضيف إليه رودريكيس لقب “موكيك” الذي لا ندري ما معناه أو ما صيغته الأصلية.
استشهد المقدم علي في قتال جرى مع البرتغاليين قرب طنجة، فعين مكانه تمام “الحريشي” نسبة إلى وادي الحريشة، أو “الحرشني” نسبة إلى بني حرشن من بني مصور، والذين يفصلهم وادي الحريشة نفسه عن جبل حبيب. ولا نعرف عن هذا الرجل أكثر من اسمه هذا، وقد خلفه رجل يدعى عزوز ويلقب بOtacis ولعله “الوطاسي” كما ذهب إلى ذلك حسن الفيكيكي، وقد وقع أسيرا في يد البرتغاليين سنة 1539.
وسكنت جبل حبيب أسرة “الروسيين” وهي من أشراف بني عروس الأدارسة، ولا زال موطنها إلى الآن يعرف ب”الروسييش”، فآلت رئاسة قلعة الخروب إلى أحدهم ويدعي عليا. وأبلى هذا المقدم بلاء عظيما في أحواز طنجة حتى استشهد في بعض المعارك بعد إصابته برمية مدفع. واستشهد من بعده أيضا المقدم عبد الملك وهو حسب وصف المصادر من أهل قلعة الخروب نفسها. وآخر من تذكره المصادر البرتغالية هو المقدم “علي بن يعيش”. وقد أصبح جبل حبيب من بعده ضمن إمارة الحرة بنت علي بن موسى بن راشد صاحبة تطوان، ويذكر ابن عزوز حكيم أن الحرة عينت خالها المسمى “فرناندو مرتين” الذي تنسب إليه مرتين، قائدا على جبل حبيب كله، فأساء السيرة فيه، ونقل بعد ذلك إلى مصب وادي مرتين خارج تطوان حيث أصبح أمينا للديوانة المشهورة.
وحينما خرج البرتغاليون من أصيلا أصبح جبل حبيب تابعا لهذه الأخيرة وحكامها العروسيين، وبقي كذلك في العهد السعدي، ومع زوال الغزو البرتغالي بدأ التعمير يشمل الكثير من القرى في هذا الجبل وسكنته الكثير من الاسر الإدريسية على وجه الخصوص لجواره قبيلة بني عروس، وأشهرها أسرة “أفيلال” التي تعد قريتا “افلالسة” و”الجبيلة” مركزيها مقابل قرية “مجمولة” ببني عروس. وكلما زاد تعمير القبيلة قلت أهمية قلعة الخروب المذكورة حتى اندثرت نهائيا، ولم يبق من أثرها إلا حطام الحجارة قريبا من ضريح “سيدي حبيب” المذكور. وزادت في المقابل أهمية المدشر الذي حمل اسم “الخروب”، والذي يتميز بوجود ضريح كبير يعرف ب”لالة خدوج” يقام عنده موسم سنوي إلى الآن، ولا نعلم شيئا عن لالة خدوج هذه ولا عن الزمن الذي عاشت فيه. ويكثر في “الخروب” لقب “الأندلوسي” إلى جانب ألقاب عائلية أخرى منها لقب أسرة “الفرطاخ” القادمة من بني يدر.
ومن أسر الأعيان من المنتسبين إلى الشرف الذين استوطنوا هذه القبيلة أولاد “الطريبق” في مدشر “تزروتن” وهم أقارب لعائلة “أفيلال” يجتمعان معا في أحمد بن القطب عبد السلام بن مشيش، ولم يبق من ذرية أحمد هذا سواهما. وبنو عبد الوهاب وبنو حليمة في مدشر “الكر”، وبنو عبود اليدريون في مدشر “الرمل” وأولاد مرصو في “الزيتونة” و”الحجرة” و”دار أقلو” و”أبي حذيفة”، وأولاد “مرون” في “بني حاتم”… ومن أشهر أسر هذه القبيلة أيضا أولاد “بخات” في مدشر “دار ابن صدوق” وغيره الذين ينتسبون إلى الشرف العمراني، والكثير من البقاليين، ولكثرة استيطان هذه الأسر منذ العهد السعدي، فقد وصفت قبيلة جبل حبيب منذ القرن الثامن عشر للميلاد بأنها قبيلة الأشراف وطلبة القرآن، وفي “دار ابن صدوق” نفسه والكثير من القرى الأخرى لم يكن طبخ الطعام يتوقف لكثرة من ينزل بها من الغرباء وطلبة العلم، وقد سبق أن ذكرنا ما كان بين أهل جبل حبيب وجيرانهم بني مصور قديما من المنافسة العلمية.
الصورة للضريح المسمى “للا خدوج” بقرية “الخروب” في شهر يونيو 2014.