بلال الداهية
كثيرا ما نصادف في كتب التاريخ المغربي لفظ “غمارة”، فهو لفظ ذو تاريخ عريق يمتد من الفتح الإسلامي للمغرب إلى الفترة المعاصرة، دال على قبيلة من قبائل البربر. ثم تجدنا اليوم نسمع كلمة “غمارة” متداولة بين الناس للدلالة على تجمع قبلي مكون من تسعة قبائل أغلبها كبيرة المساحة، وكلها تابعة الآن لإقليم الشاون. فهل لفظ “غمارة” التاريخي ولفظ “غمارة” الحالي يحملان نفس الدلالة والمعنى والسمات؟
إن شئنا البدء بالخلاصة لقلنا إن غمارة الحالية هي جزء من غمارة التاريخية، وبالتالي فإن هذه الأخيرة كانت أوسع بكثير مساحة، وحينما كان مصطلح “جبالة” غائبا في المصادر التاريخية المغربية نهائيا حتى ظهر لأول مرة في كتاب “زهر الأكم” للحاج عبد الكريم ابن موسى الريفي في العهد الإسماعيلي، كان لفظ “غمارة” و”جبال غمارة” هو الذي يغلب على القسم الغربي كله من سلسلة جبال الريف. غير أن مصطلح “غمارة” قد تداخل مع مصطلحي “الريف” و”الهبط” أيضا، فتكاد مصادر العصر الوسيط تجمع على أن جزءا كبيرا مما يسمى الآن ب”الريف” كان يعد ضمن نطاق “غمارة” إذ مدها البعض إلى “بادس”، ووصل ابن خلدون بها إلى “غساسة” فكاد مصطلحا “الريف” و”غمارة” يتطابقان في هذه الحالة. وأما “الهبط” وإن كان في العادة يطلق على أقصى غرب جبال الريف وامتداداتها في حوص لوكوس إلى حدود تقاطعه مع “أزغار” (سهل الغرب)، ويوحي بمفهوم “الانخفاض” عن سائر الأجزاء الأخرى من السلسلة الجبلية، فإن التداخل بين المصطلحين بقي واردا في الكثير من النصوص، نسوق على هذا مثالا من “صفوة من انتشر” للإفراني الذي ترجم للولي أحمد بن موسى ابن جامع الذي دفن في قبيلة بني خالد الغمارية في بداية القرن الحادي عشر للهجرة/ السادس عشر للميلاد في منطقة شديدة الارتفاع قريبة من جبل “تيزيران” الذي يفوق ارتفاعه ألفي ومئة متر و”تازيات” الذي يكاد يبلغ ألفا وثمانمئة، فعد موضع دفنه من جملة “بلاد الهبط”.
إن ما يلاحظ على القبائل التسعة المشكلة لغمارة الحالية أنها جميعا وعرة المسالك شديدة الارتفاع، غير أن هذا الارتفاع يقل مع الاقتراب من البحر، ومع ذلك فلا سهول إلا بعض البسائط الفيضية الضيقة جدا في “قاع أسرس” و”السطيحات” و”بو أحمد” و”أمتار” حيث توجد مصبات بعض الأودية، وأما باقي أراضي القبائل التسعة فهي شديدة الوعورة، وحتى الشواطئ منها هي في الغالب عبارة عن أجراف ونتوءات صخرية، وتزداد الوعورة شدة في القبائل الداخلية، حيث تمتد قبيلة بني زجل على بعض القمم الشاهقة والسفوح الشديدة الانحدار، ويعد الجبل الأقرع الذي تشترك فيه مع قبيلة الأخماس ثاني أعلى قمة في سلسلة جبال الريف كلها بعد “تدغين”، ومن القمم الشاهقة أيضا جبل “تيزيران” المطل على مركز “باب برد”.
وقد سمح الارتفاع الشديد بغزارة التساقطات المطرية منها والثلجية، فجبل “تيزيران” هذا قد يبلغ معدل التساقطات فيه في الأعوام الشديدة الرطوبة أكثر من ألفي ميليمتر في السنة، إذ تناطح قمم هذه الجبال السحاب، فيشتد بها الضباب خصوصا إذا كانت الريح غربية والفصل شتاء أو ربيعا، فيقع الضباب تحت تأثير الضغط ويتحول إلى قطرات مطرية، وقد تجد أحيانا المطر نازلا فوق “باب برد” و”العناصر”، وما إن تتجاوز بعدها “باب المضيق” حتى تجد الجو صافيا أو قليل السحب. ولكننا كلما اتجهنا صوب البحر نجد التساقطات تقل بشكل كبير حتى إنها في بعض المواضع لا تتجاوز خمسمئة ميليمتر في السنة كلها. وأما الثلوج فكثيفة جدا وفي العام البارد تغطي رؤوس كل جبال القبائل الخمسة الداخلية، وتصل آثارها إلى القبائل الساحلية، حتى إنك ما إن تسير بجوار شاطئ “أمثار” حتى يظهر جبل بني حمدون أمامك أبيض وهو الذي لا يبعد عن البحر إلا ببضعة كيلومترات، بل إن أثر الثلوج قد يصل إلى بعض المناطق من الشاطئ كما حدث هذا العام بناحية “أعرقوب” و”جنان النيش” ببني بوزرة. وفي مثل هذه الحالات تكون جبال بني خالد قد دفنها الجليد دفنا.
وينعكس الوضع المناخي في جبال غمارة على الماء والنبات، فالماء في الأصل فيها شديد الغزارة، فأينما ذهبت تصادفك الينابيع والعيون والشلالات، بل إن بعض مياه بلاد غمارة يضرب بها المثل في الجودة كماء عنصر “اقنقبن” في طرف قبيلة بني خالد الشرقي مما يلي حدودها مع كتامة. وتجري أغلب الينابيع من أعالي الجبال نحو الأسفل لتشكل ما يشبه الخوانق الضيقة والشديدة الوعورة حتى تنتهي إلى البحر الأبيض المتوسط، إلا أن بعض الأنهار تسير في الاتجاه العكسي نحو نهر ورغة ومنها مثلا نهر “أولاي” الذي ينبع من جبل تيزيران. ومن هذه الخوانق الضيقة “وادي القنار” الذي يعد الآن منتجعا سياحيا والذي ينتهي إلى البحر في قرية “السطيحات”. ومن الينابيع الشهيرة بجلبها السائحين أيضا شلالات “أقشور” الواقعة بتراب بني زجل.
أما النبات فيتدرج حسب الارتفاع، وتوجد في مصبات الأنهار عند الشواطئ سهول فيضية خصبة تزرع بأنواع كثيرة من الحبوب وتغرس فيها الخضر والفواكه خصوصا سهل “تيكيساس”، أما المناطق الداخلية المرتفعة فتغلب عليها غابات كثيفة من الأرز والصنوبر، ويتميز عنها جميعا جبل “تازاوت” بتراب بني زجل بنوع خاص من الأرز الشديد النحافة والطول يعرف ب”أرز تازاوت”، وبلغ من شهرته أن ملك إسبانيا كارلوس الثالث كان قد طلب من سلطان المغرب محمد بن عبد الله العلوي أن يمنحه ترخيصا باستغلاله، فأصدر ظهيرا يأذن فيه بذلك يوم 7 ربيع الثاني 1204 هـ/ 1789م وكلف الوزير ابن عثمان المكناسي بتبليغ الموافقة لقنصل إسبانيا. وقد غلبت الآن على المناطق الداخلية زراعة الحشيش بأنواعه المختلفة خاصة في قبائل بني خالد وبني رزين وبني سلمان، والمعروف أن الأولى كانت زراعته مرخصة بها.
![من تاريخ بادية الشمال: بلاد غمارة [1]](https://ma3alim.com/wp-content/uploads/2025/02/tribbu-bni-khalid-ghmara-maroc.jpg)