د : عبد الحفيظ حمان
أستاذ التاريخ بكلية الآداب بجامعة عبد المالك السعدي
تحتفل فرنسا في 14 يوليو من كل عام بالعيد الوطني في أجواء احتفالية كبيرة، تعم كل شوارع المدن وبالأخص العاصمة باريس، حيث يترافق الاحتفال عادة بعرض عسكري مهيب في جادة الشانزليزيه بحضور رئيس الجمهورية وأركان الحكومة وجمهور غفير من المواطنين، إضافة إلى ضيوف من دول أخرى.
تعود أصول العيد الوطني في فرنسا إلى 14 يوليو 1789، عندما قامت الثورة الفرنسية بالاستيلاء على سجن الباستيل في باريس الذي كان رمزا للقمع والقهر والاضطهاد السياسي للحكم الملكي الفرنسي القديم. وما زال الفرنسيون يفتخرون بالثورة الفرنسية والتغني بما قدمته للإنسانية من مفاهيم ومبادئ التنوير، التي أنقذت العالم من الاستبداد وألهمت الشعوب من أجل التحرر. ففي هذا اليوم قام الفرنسيون بتحطيم شعارات الظلم والطغيان وإعلاء شعارات الثورة: الحرية، المساواة، الإخاء، فغدت هي ثلاثية الثورة الفرنسية، التي تبنت أفكار عصر التنوير وكرّستها شعاراً للجمهورية.
غير أن مجريات التاريخ طيلة عقود، والواقع الحالي يبيّن لنا بوضوح أن فرنسا تعيش في تناقض كبير مع شعارات ومبادئ ثورتها، التي بنيت عليها هذه الدولة ويعتبرها أغلب المؤرخين من أهم الأحداث التي شهدتها البشرية. فالحرية، الشعار الأول للثورة الفرنسية، هتكته فرنسا بحملتها على مصر سنة 1798 على يد نابليون بونابرت، الذي ترعرع في أحضان الثورة الفرنسية واستلهم مبادئها، وبالتالي قاد التوسع الاستعماري باسم حماية الثورة الفرنسية من جهة، وتصدير مبادئها من جهة أخرى. فأضاف حلقة أخرى إلى مسلسل الاستعمار الفرنسي الطويل، الذي بدأ من منتصف القرن 16. وامتلكت فرنسا طيلة أربعة قرون مستعمرات موزعة على قارات العالم، بمساحة تجاوزت اثني عشر ألف كلم مربع أي نحو ستة وعشرين ضعفا من مساحة فرنسا نفسها، وارتكبت جرائم في حق سكان تلك المستعمرات، خاصة في افريقيا. ولو أردنا إحصاء جرائم فرنسا في حق شعوب العالم لما وسع هذا المقال ذلك، ولكن حسبنا أن نحيل إلى كتاب جاك موريل «روزنامة جرائم فرنسا في عالم ما وراء البحار» يذكر مئة جريمة من جرائم الحرب والإبادة التي ارتكبها الاحتلال الفرنسي في مستعمراته حول العالم في أقل من قرن ونصف القرن. كما استمرت الجرائم والمذابح الفرنسية في مستعمراتها في وقتنا الحاضر، فالإبادة الجماعية، مثلا، ضد أقلية التوتسي في رواندا عام 1994 لا تزال تطارد فرنسا. وبذلك تشهد ذاكرة التاريخ وممارساتها الآنية على جرائم فرنسا الاستعمارية، في الوقت، الذي يتباهى كل الرؤساء الفرنسيون بأن فرنسا هي بلد الحرية والديمقراطية والتعايش السلمي والثقافي والحضاري، والتنوع الإثني والعرقي، ويقفون مرفوعي الرأس حين ينشد نشيد «لامارساييز» رمز الثورة الفرنسية. فكيف يمكن لتلك الثورة التي حطمت أسوار وأقفال الباستيل ورفعت أولا شعار الحرية، أن تنجب من رحمها دولة استخدمت قوتها الغاشمة في إبادة البشر وحرق القرى والمدن وقطع رؤوس أبطال المقاومة الذين رفعوا شعار الحرية والاستقلال؟
في حرب غزة الحالية، تخلّت فرنسا عن شعاراتها وساندت الكيان الاستعماري الصهيوني الذي يرتكب جرائم شنيعة وإبادة جماعية للفلسطينيين
أما المساواة، الأيقونة الثانية في الشعار الثلاثي، فيشهد تاريخ فرنسا بعد الثورة الفرنسية أن شعار المساواة مجرد خدعة وكذبة كبرى تخفي وراءها أيديولوجية إقصائية، ففي سنة 1853 أصدر الكاتب الأرستقراطي الفرنسي آرثور دو غوبينو كتابه المعنون «مقال عن عدم المساواة بين الأجناس البشرية» يزعم أن هناك اختلافات بين الأعراق البشرية، وأن العرق الأبيض متفوق. فالمساواة قيمة لم تعمل وفقها فرنسا خارج حدودها، ولهذا ما زالت افريقيا تتألم من ماضي فرنسا الاستعماري. وفي فترتنا الراهنة، يبرز الواقع في فرنسا أبشع مظاهر التمييز والعنصرية وهدم أي معنى للمساواة تجاه المسلمين، على الرغم من كون الإسلام هو الدين الثاني في البلاد ويمثل أتباعه نحو 10 في المئة من المجتمع الفرنسي. وأصدرت الحكومة الفرنسية قوانينها العنصرية ضد المسلمين، وأشهرها قانون 2004 الذي حظر ارتداء الحجاب في المدارس الثانوية الفرنسية. هذه السياسة العنصرية العدائية جزء من عقيدة النخبة الحاكمة في الإليزيه منذ قيام الثورة الفرنسية، وما يساق حول المساواة والتسامح مجرد مساحيق تجميلية تغطي الوجه الآخر للظلم والتمييز.
وفي حرب غزة الحالية، تخلّت فرنسا عن شعاراتها وساندت الكيان الاستعماري الصهيوني الذي يرتكب جرائم شنيعة وإبادة جماعية للفلسطينيين، ولم يتردد الرئيس الفرنسي ماكرون باقتراح حشد تحالف دولي ضد حركة حماس، التي صنفها «منظمة إرهابية» ليذكرنا بالأصول الاستعمارية الفرنسية، عندما كانت فرنسا تطلق على كل حركات المقاومة اسم «الإرهابيين» أيضا، هذه هي الوقاحة اللغوية التي تزيف الوقائع، وتبرز الجلاد على أنه الضحية. أما شعار الإخاء، فقد انكشف في الماضي والحاضر، على أنه مجرد مفهوم مطاطي يفسره السيد الفرنسي بالشكل الذي يراه مناسبا، ففرنسا التي تفخر بأنها قننت مبادئ ترجع للفرد إنسانيته استخدمت، طوال حقبتها الاستعمارية البشعة، مستعمراتها الافريقية كمراكز لشحن العبيد إلى أوروبا وتمكنت من بيع ملايين العبيد، فأصبحت هذه التجارة توفر للاقتصاد الفرنسي فرص الازدهار والتقدم. فيبدو أن هذا الإخاء الذي عنته الثورة لم يتضمن في زمرته البشر من الأعراق الملونة، بل استمر «القانون الأسود» عقودا بعد الثورة الفرنسية وجعل السود كالوحوش في وجدان الفرنسيين لوقت طويل، كما رأى ذلك الكاتب الفرنسي جاك موريل. وفي حاضر فرنسا المعاصر باتت الألفاظ العنصرية منتشرة بين طبقات المجتمع الفرنسي كافة، وأصبحت ورقة تستخدم في الانتخابات الفرنسية وبلغت ذروتها طوال هذه المدة التي قضاها الرئيس ماكرون واتخذها مطية لفوزه بولايته الثانية. وبسببها شهدت فرنسا موجة من الأحداث والاضطرابات، كان آخرها بعد مقتل الشاب الفرنسي من أصول جزائرية نائل، على يد شرطي فرنسي، ليثبت هذا الحدث أن العنصرية متجذرة في الأعراق الفرنسية، وفي داخل المؤسسات الشرطية، فهل غاب عن الفرنسيين المنزعجين من المهاجرين، أن نهضة بلادهم وثروتها تقوم على ثروة شعوب هؤلاء المهاجرين؟ أم أنهم منقطعو الصلة عن تاريخ بلادهم الاستعماري كما يقول العالم الاجتماعي نعوم تشومسكي.
وصفوة القول، إن الشعارات الثلاثة للثورة الفرنسية وأصنام فرنسا الحالية، لا تتطابق مع تاريخها وحاضرها وما هي إلا فراغ ووهم. فالحرية التي تحطمت من أجلها أقفال الباستيل، هتكتها فرنسا في بلدان أخرى وقيدت شعوبها بأغلال الاحتلال. أما المساواة فقد أثبت تاريخ فرنسا وحاضرها أنها لا تنطبق على الأعراق الأخرى، فالسيد الفرنسي يعيش في برجه العاجي ومن دونه همج ينظر إليهم نظرة ازدراء وتوجس. أما الإخاء، ثالث شعارات الثورة الفرنسية، فهو قناع سقط عن وجه فرنسا منذ استعبادها عبر تاريخها للشعوب الأخرى واحتقارها وعنصريتها الفجة تجاه العرب والمسلمين في حاضرها وتاريخها الراهن. وكما يقول المثل الفرنسي: الأفراد لا يتغيرون، وإنما تنكشف حقيقتهم. فيسقط القناع ويظهر الوجه الحقيقي.