عبد السلام المنصوري
تُؤرّخُ روايةُ غسان كنفاني “أم سعـد” لمرحلةٍ مفصليّةٍ في تاريخ النّضال الفلسطيني، مرحلة الخروج من الصدمة الكبرى التي خلّفتها نكبة ١٩٤٨ في الذات الفلسطينية، إلى مرحلة المُقاومة المسلحة والعمل الفدائي. فإذا كانت رواية “رجال في الشمس” تدينُ هذا الهروب الكبير لفئاتٍ واسعةٍ من أبناء فلسطين، بحثا عن أوطان بديلة، وحيوات المنفى والشتات، بدلا من تحمل المسؤولية التاريخيّة في الدفاع عن الأرض، وإذا كانت رواية “عائد إلى حيفا” تؤكد أن الهوية الفلسطينية تتحدد بالمقاومة، وأنّ الإنسان الفلسطيني هو بالتعريف “قضية”. فإن رواية “أم سعـد” تصوّرُ المرأةَ الفلسطينيّة التي آمنت بأنّ رسالتها المقدسة هي صناعة رجال الثورة، والدفع بأبنائها إلى ساحاتِ القتال.. وكما وصف أبو سعد زوجته: “هذه المرأة تلد الأولاد فيصيروا فدائيين، هي تخلف وفلسطين تأخذ” [ص: ٦٢] والرّوايةُ وإن كانت مهجوسةً بالنضال، مسكونةً بالثورة، فإنها مع ذلك ببنائها الفني البسيط والسّاحر تقفُ شامخةً على أرض الفن.
٢/ من المشاهـدِ الكثيفةِ والدّالـة في الرّواية مشهدُ استبدال “أم سعـد” لتميمةِ [حجاب] كانت ترتديها تبركا ووقـاية، بسلسلةٍ تنتهي برصاصةٍ فارغة، تذكارا من بكرها المناضل “سعـد”.. في إشارة خاطفة ـ لكنها لامعة ـ من “غسان” إلى تجاوُز مرحلة السّلبية، والتعلق بالخُرافات، والاكتفاء بالأدعية والابتهالات، إلى مرحلة العمل المُسلح والرّصاص الحي.. أي الانتقال من وعود السماء إلى وعـيد الأرض، بلغة النضال الإيديولوجي الفج آنذاك..
٣/ كلنا يعلمُ السّياق الذي كتب فيه “غسان كنفاني” رواياته، كما نعلم الإيديولوجيا التي أطرت أعماله الأدبية، فهو من مُؤسّسي “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” إلى جانب الحكيم “جورج حبش”، بخلفيتها اليساريّة الواضحة، التي تعلنُ الخصومة مع مظاهر التدين الاجتماعي، إن لم نقل مع الدّين رأسا.. باعتباره من عواضل الرجعيّة وعوامل التخلف والانحطاط.!! لكن “غسان” لم يجُلْ بخاطره يوما أن القضيّة الفلسطينية كانت موعودة بأكبر حركة تحرُّر في تاريخها، تنطلقُ من المساجد، وتجعلُ من الدين سلاحها الأكبر والأخطر، في مواجهة العقيدة الصهيونية المتطرفة..
٤/ لقد عمل “أحمد ياسين” لعقود طويلة، بصبر الأنبياء وإخلاص الربانيين، فصَيّر طينَ غـزة ذهبا خالصا وجوهرا نفيسا، وأعد جيلا مؤمنا صادقا، شاهـدا وشهيدا.. وقد صوّر بعضَ تجليات هذا العمل العظيم، يحيى السّنوار في روايته “الشوك والقرنفل”.. وكلُّ مَن يتابعُ ما تقوم به حركة حماس على الأرض، يعلمُ يقينا أن قوّتها الضاربة ليس في ترسانتها العسكريّة التي قدّتْها من صخر، وطوّرتها بصبر قاطع الأحجار فحسب، وإنما في هذا الإيمان العميق والراسخ، وفي هذا اليقين الرسولي بوعود السماء بعد أن تحرروا من أوحال الأرض..