محمد خيي الخمليشي
قبل التوصل إلى صفقة وقف إطلاق النار بأيام قليلة، كنت ممتنا للفرصة التي اتاحتها لنا الصحفية منى العمري التي اختارت بعناية ضيفها المميز، الدكتور أحمد المخللاتي ، لتسجيل حلقة أخرى من بودكاست ” البْلاد” . وقد كانت منى العمري تعلم أي نوع من الشهود تقدم، عبر شاشة منصة الجزيرة 360، للمشاهد العربي و لكل المهتمين بالقضية الفلسطينية في العالم
حينها تسمّرت أمام شاشة التلفاز لمدة أربع ساعات متواصلة وبتركيز شديد، اتابع الوقائع التي تجري على لسان هذا المتحدث بسلاسة وهدوء يثيران الإعجاب.
ذلك الطبيب الفلسطيني المختص في الحروق و لملمة الجروح وجمع الأطراف المتناثرة بعد كل غارة حارقة، لم يكن فقط ماهرا في العمليات الجراحية التي يجريها في الغالب بدون تخدير بل أبدى في هذا البودكاست/البوح قدرة مدهشة على السرد والتوثيق.
ولم يغفل الدكتور أحمد المخللاتي عن كونه “شاهد عيان” يتحرى الدقة في شهادته، بل صار يروي ما عاشه إلى جانب زملائه في مجمع الشفاء الطبي من أهوال وملاحم، لحظة بلحظة. وبتركيز عجيب، يحكي هذا الشاب المؤمن عن مشاهد كثيرة لم يستطع معها في لحظات كثيرة حبس دموعه !
في تقديري أن سحر هذه الحلقة من بودكاست “البلاد”، والمعنونة ب ” ثمانية أيام في مستشفى الشفاء” يسمح لنا أن نفهم دون مواربة لماذا صمدت غزة ! فضلا عن كون هذه الحلقة هي وثيقة تاريخية، يوقِّع من خلالها د.أحمد على شهادة استثنائية لطبيب فلسطيني كان مقيما في لندن ويعمل في أحد ارقى مستشفياتها، قبل أن يختار العودة إلى عْرْة. وعندما حل موعد السابع من أكتوبر ، فهم د. أحمد أن اللحظة مواتية تماما لأداء ضريبة الانتماء لوطن محتل يعتمد بعد الله على أبناءه وتضحياتهم لصد أخبث مختل عرفته المنطقة عبر تاريخها العريق، فلم يتردد لحظة في اتخاذ قرار عدم مغادرة عْرْة، والمغادرة بالنسبة له طريق سهل سالك بالنظر إلى جواز سفره البريطاني. فلم يختر البقاء والمواجهة فقط، بل كان رائدا في إسناد صمود أهله، من خلال الحرص على صمود المنظومة الصحية، وفي قلبها مستشفى الشفاء، والتي راهن الكيان المجرم منذ البداية على استسلامها فضلا عن اخراجها عن الخدمة ايذاناً بانهيار القطاع …
تلك التفاصيل الدافئة و المروعة في آن، والتي تجعلك تبكي وتضحك، وتحزن وتفرح في الوقت نفسه، يحكيها لنا طبيب شاب بهدوء وتواضع جم، فيخلق لنا حالة من الانتشاء والطرب والامتنان لوجود هذه البيئة المقاومة وهذه الحاضنة الاجتماعية الوفية لفعل المقاومة. صحيح اننا تابعنا من خلال النقل الفضائي المباشر مشاهد توحش الإجرام الصهيوني واستهدافه الممنهج لدُرَّة تاج النظام الصحي في غزة، لكن تلك اللحظات الإنسانية التي انساب جمالها على لسان الدكتور المخللاتي تضفي الحياة على جملة من العواجل “الإخبارية ” التي قد لا نلتفت اليها في زحمة المتابعة اليومية للماجريات، فشتان بين المتابعة العابرة من الخارج والشهادة الباذخة من الداخل.
تلك الشهادة التي تروي بفخر ملحمة صمود أسطوري لمستشفى الشفاء، وتحكي ببساطة كيف ظل هذا المستشفى الرمز شامخا في وجه آلة الإجرام الصهيوني.
باختصار، ان الدكتور أحمد مخللاتي، من خلال ما يرويه عن هؤلاء الأبطال الذين عايشهم في المستشفى على مدار الأسابيع والأشهر الأولى للعدوان، وبخاصة في الأيام الثمانية التي فصلت بين حصار المستشفى واقتحامه، يجعلك تعيد اكتشاف معنى ” أخلاق الصحابة” ، واقعا وسلوكا معاشا.
تلك القامات الطبية وغير الطبية في مستشفى الشفاء أعادت تجديد معنى النبل الإنساني، معنى أن يعيش الانسان من أجل الآخرين، إنقاذا لحياتهم وتخفيفا عن معاناتهم، في زمن تقديس الحياة المادية و قيم الفردانية، وفي زمن تهيمن عليه ثقافة الخلاص الفردي …
يفرض عليك ذلك السرد الاستثنائي ان تقف على معنى ان يرقى الانسان فوق أنانياته، و يفرض عليك أن تنتبه إلا أن إنسانية الانسان تتحدد بمدى قدرة هذا الإنسان على تطويع “الغريزة الحيوانيّة” الكامنة فيه، والتي تدفعه دائما إلى ان يعيش محكوما بمخاوفه وأطماعه.
شهادة على العصر من طبيب عاش أهوال وملاحم الشفاء، يحكيها بنفسه و بسلاسة غير عادية، في بودكاست فخم في طريقه للتربع على عرش البودكاست العربي ذو المحتوى الجاد.
ختاما، قد تسمح لك هذه الشهادة بفهم ناحية واحدة على الأقل من أسطورة عْرْة، أو تكاد …