بلال الداهية

على طول واجهة بحرية مهمة تمتد ناحية الجنوب الشرقي من تطوان قبيلة جبلية تمتلك شريطا حدوديا طويلا مع بني حزمار غربا ومع بني حسان جنوبا، يفصلها عن الأولى حوض نهري هليلة والخميس، ويجمعها مع الثانية جبل كلتي أعلى قمم إقليم تطوان. أما من الناحية الشرقية فيفصلها نهر “لو” عن قبيلتي بني زيات وبني زجل الغماريتين، في حين تطل شمالا على البحر الأبيض المتوسط: تلك هي قبيلة بني سعيد المشهورة بشواطئها الجميلة.

إن جزءا مهما من هذه القبيلة صعب المسالك وشديد الوعورة كلما اتجهنا نحو الداخل، بينما تقل الصعوبة كلما اقتربنا من البحر، كما أنها أرضها متميزة عن سائر نواحي تطوان بتربة شديدة الحمرة فلا غرابة إن سميت إحدى قراها ب”المدشر الأحمر”، ولكنها مع ذلك كثيرة الغابات والعيون والأنهار، وأرضها من الأراضي القليلة التي تثمر فيها معظم أنواع الفواكه.

إن قبيلة بني سعيد هي من أكبر القبائل الجبلية كثافة سكانية، رغم أن مساحتها متوسطة مقارنة مع قبائل أخرى، وأول مظاهر هذه الكثافة السكانية الضخمة هو تكون القبيلة من إحدى عشرة فرقة، وهذا العدد لا يوجد في أية قبيلة جبلية أخرى إلا في قبيلة الأخماس وهي قبيلة عملاقة من حيث المساحة لا تقارن قبيلة بني سعيد بها. وهذه الفرق الإحدى عشر هي: أزرزا وأمسا وبنو عاصم وأغنوري وأناسل وتنوذت وتوغزة وعزفة وتزكة ووراق وبنو بزاز. وكل فرقة منها كانت تسمى قديما ب”المشيخة”.

إن ناحية بني سعيد تعد من المواضع الأقدم تعميرا في الناحية الشمالية من المغرب، والدليل على ذلك أنها تحتوي على بقايا من آثار الأولين خصوصا بشاطئ أمسا، الذي كان بعض الأثريين الإسبان قد وجدوا به على تل علوه نحو ثلاثين مترا يطل على وادي أمسا على بعد كيلومترين فقط عن موج البحر آثار منازل متوازية وقطعا من الخزف الكمباني المصبوغة باللون الأحمر، وقنديلا هلنستي الشكل، وإبزيما برونزيا وبعض الجرار. وكان التقرير الذي كتبه الباحث الإسباني الكبير ميغيل طاراديل قد رجح أن هذه البقايا شبيهة جدا بتلك التي وجدت في “لكسوس” ولا علاقة لها ببقايا “سيدي عبد السلام د البحر” القريب جدا من “أمسا”. وقد خلص إلى أن هذا الموضع عرف تعميرا في العهد البونيقي، وارتبط سكانه بأهل “لكسوس” و”كهف تحت الغار” المقابل لتطوان من جهة مدشر “مشروحة” الحزمري، ثم خرب وانتقل هؤلاء السكان إلى “سيدي عبد السلام” المذكور.

ويبدو أن الاستيطان البشري في ناحية بني سعيد لم ينقطع منذ العصور القديمة إلى غاية الفتح الإسلامي، وهو العصر الذي نشأت فيه القبيلة. بدليل أن اسم الجد الذي تنتسب إليه (سعيد) اسم عربي لم يكن في المغرب قطعا قبل الفتح الإسلامي.

إن قبيلة بني سعيد تنتمي إلى غمارة بالتأكيد كما نصت على ذلك مصادر عديدة من العصر الوسيط، ومعلوم أن قبائل البربر بعد دخول الإسلام، وخصوصا غمارة، قد اتخذ جل أفرادها أسماء عربية، فصارت الكثير من قبائلها تنسب إلى جد يحمل اسما عربيا، فننجد في جبال غمارة بني سعيد وحسان وليث ومنصور وجرير وخالد… فلعل سعيدا الذي تنسب إليه القبيلة كان معاصرا للفتح الإسلامي أو عاش بعده بقليل، كما كان ماجكمس الغماري جد قبيلة مجكسة مثلا معاصرا للفتح الإسلامي ولثورة الخوارج.

من بين ما تتميز به قبيلة بني سعيد أنها إحدى أكثر القبائل الجبلية التي حافظت على طابعها البربري الأصلي من خلال مظهرين اثنين: أولهما نمط السكن، إذ تختلف منازل هذه القبيلة تماما عن منازل جيرانهم من بني حسان وبني حزمار ومعظم القبائل الجبلية التي تتميز بسقف مكون من صفيحتين من الزنك مائلتين بشكل متقاطع، بينما تتميز منازل بني سعيد بالبناء الحجري التقليدي، الذي تحاط فيه الأبواب والنوافذ بشريط ضيق من الطلاء الجيري الأبيض، مع سقف مسطح مكون في الغالب من الأغصان أو السعف، كما أن المنزل السعيدي تظهر عليه الخشونة الشديدة في العيش مقارنة مع القبائل الجبلية الأخرى. وإن المنازل السعيدية عموما شبيهة جدا بمنازل أهل متيوة وقبائل الريف وبعض القبائل الغمارية القريبة من البحر، وبمنازل جبال الأطلس.

أما المظهر الثاني فهو الغلبة الساحقة للأسماء البربرية أو ذات الاشتقاق البربري على القرى، فبعد الإحصاء الشامل لأسماء القرى لم نعثر من بينها مما يحمل أسماء عربية إلا على سبعة أسماء فقط: “الريفيين” و”زاوية سيدي قاسم” و”الذكار” و”المدشر الأحمر” و”جامع الزهر” و”القليع” و”عزفة”. إلى جانب مداشر قليلة تحمل صيغة جمع عربية للقب العائلة أو الجماعة البشرية الساكنة بها ومنها “القجابلة” جمع “قجبال”، و”الدرابنة” جمع “الدربون” و”الهرازمة” جمع “الهرزوم”، إلى جانب “دار اشقارة” و”دار البلار” و”بني عاصم”. فيكون المجموع ثلاثة عشر فقط من أصل تسعين مدشرا تتكون منها القبيلة في المجموع. أما البقية فهي إما أسماء بربرية دلالتها طبيعية ك”تاسيفت” و”أوشتام” و”أمسا” و”تمرنوت” و”أكنان” و”تافراوت” و”أغنوري” و”تزغارين” و”تكنزيون” و”زمورث”… أو أسماء جماعات بشرية جمعت بصيغة بربرية، وهي الأغلبية الساحقة ك”إعبدلاتن” و”إقمومن” و”إكفيفن” و”إحمدانن” و”إخليفاتن” و”إبراقن” و”إعسكرن” و”إكرديدن” و”إخليفاتن”…

يتبع

الصورة تعكس نمط البناء التقليدي السائد في قبيلة بني سعيد وهي مأخوذة من مدشر “إدايداين” في ماي 2015.

شاركها.

باحث في التاريخ

اترك تعليقاً

Exit mobile version