عبد المنعم التمسماني
معنى شهادة الزور وخطورتها :
شهادة الزور معناها: أن يشهد المرء بما لا يعلم عامدا ولو طابق الواقع . وقيل : هي الشهادة بالكذب .. وتعتبر من أبشع الرذائل ، وأشنع المعاصي ، وأفحش الآثام ، وأعظم الموبقات ، وأكبر الكبائر .. ويكفي للدلالة على فظاعتها وخطورتها أن رب العزة سبحانه قرن النهي عنها بالنهي عن عبادة الأوثان في محكم القرآن ، فقـال تعالى : ] فاجتنبوا الرجس من الأوثان ، واجتنبوا قول الـزور ([1]. وقال جـل وعلا – واصفا عباده المؤمنين المتقين – : ] والذين لا يشهدون الـزور ([2] ، أي : لا يقيمون الشهادة الباطلة، أو لا يحضرون محاضـر الكذب . وفي الصحيحين عن أبـي بكرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول اللـه r : » ألا أنبئكـم بأكـبـر الكبائـر (ثلاثا) ؟ « ، قلنا : بلى يا رسول الله ، قـال : » الإشراك بالله وعقوق الوالدين « ، وكان متكئا فجلس فقال : » ألا وقول الـزور وشهـادة الـزور ، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت « .
فجلوسه عليه الصلاة والسلام بعد اتكائه يشعر باهتمامه الكبير بهذه الآفة الخطيرة (شهادة الـزور) ، ويفيد تأكيد تحريمها ، وعظم قبحها . وسبب اهتمامه المتزايد بها – كما قال أهل
العلم – هو : كونها أسهل وقوعا على الناس ، والتهاون بها أكثر ، والحوامل عليها كثيرة ،
كالعداوة والحسد وغير ذلك ، فاحتيج إلى الاهتمام بتعظيمها [3].
وغير خاف ما يترتب على شهادة الزور من مفاسد وشرور ، منها : مناصرة الظلم ، وإبطال
الحقوق ، وإيثار الصدور ، وشحن القلوب بالضغائن والإحن والأحقاد ، وحملها على استباحة الحرمات ، وغير ذلك من ألوان الفساد الاجتماعي والفسوق الديني ..
– فشاهد الزور إنسان حقير دنيء سافل ، قد فسدت طويته ، وسقم ضميره ، ودَوِي قلبه ، وانحرفت فطرته ، وارتكست نفسه ، وصار مستعدا لأن يدوس كل القيم والفضائل ، ليظفر ويحتفظ بما أبدله بدينه من حطام الدنيا الزائل .
– وشـاهد الـزور خـوّان أثيـم ، وله عند الله العذاب الأليم . قال تعالى : ] إن الله لا
يحب من كان خوانا أثيما [4]( ، وقال النبي الأكرم r : » لا إيمان لمن لا أمـانة له [5]« .
– وشـاهد الــزور غشّـاش مكّـار كـذّاب ، ونبينـا r يقول : » من غشّنا فليـس منّـا [6]« . ويقول عليه الصلاة والسلام : » … إياكم والكذب ، فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا [7]« .
– وشاهد الزور يجني على نفسه أولا ، فيلبسها لباس الخزي والعار والذل والاحتقار ، ويعرضها لعقاب المنتقم الجبار .
ثم يجني على المشهود عليه بإلحاق الضرر به ، وقهره وغلبته بالباطل ، وحرمانه من حقه ، وإيغار صدره عليه .. والله تعالى يقول : ] ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا ، اعدلوا هو أقرب للتقوى [8]( .
ثم يجني على المشهود له بإعانته على الباطل والجور والعصيان ، وربنـا جل وعـلا يقـول :
] وتعاونوا على البر والتقوى ، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ([9] .
ثم هو يجني أيضا على المجتمع برمته ، بحيث يسهم في إفساده وتخريبه وتهديد كيانه وإسقاطه من بين المجتمعات الراقية ، ذلك أن أي مجتمع تنتشر وتتفشى فيه هذه الآفة الخطيرة وهذه الجريمة
الشنيعة يكون عرضة للارتكاس والانتكاس، والتقهقر والانحطاط ، والانحدار والسقوط .. !!
وعموما ، فإن شاهد الزور يعتبر مفسدا في الأرض ، والله عز وجل يقول :] ولا تعثوا في الأرض مفسدين [10]( ، ويقول سبحانه : ]والله لا يحب المفسدين ([11] ، ويقول عز من قائل : ] إن الله لا يصلح عمل المفسدين([12] .
– ومن أبشع صور شهادة الزور : أن يشهد شخص لمترشح ، غير مؤهل علميا ولا عمليا ، وغير مرضي السيرة والسلوك ، بالصلاح والاستقامة والإخلاص والكفاءة .. فيبيع له صوته وذمته ، ولا يكتفي بذلك ، بل يتعاون معه على الباطل بتحريض غيره من الناس وإغرائهم ببيع أصواتهم له مقابل الحصول على عرض من الدنيا تافه وخسيس !! وربنا تبارك وتعالى يقول : ]وأقيموا الشهادة لله [13] ( .
إن مما يؤسف له جدا أن نلفي فئات عريضة من أبناء وبنات مجتمعنا من الرعاع الجهلة الأغرار يستهينون بالأمانة ، ويستجيبون لإغراءات شياطين الإنس ، فيعطون أصواتهم لمن لا يستحقها على أساس نفعي مصلحي محض ، وقد يكون هذا الذي يزكونه ويبيعون له أصواتهم من الخونة الانتهازيين الذين لهم سوابق في الفساد والإفساد واللعب والضحك على الجماهير .. !! . ولعل من أسباب ذلك أن تلك الفئات من الأغبياء لا يتعاملون ، سلبا أو إيجابا ، مع ما يبشر به ويروج له (المترشح) من مبادئ وأفكار ، وما قد يطرحه من برامج ومقترحات عملية لحل بعض المشكلات التي تتخبط فيها البلاد ، وما أكثرها ، بل يتعاملون مع شخصه ، فإن كان ممن يرجى منه نفع مادي ومصلحة شخصية ، فهو العدل المرضي الذي يستحق أن يزكى ويشهد له وتباع له الذمم ، أما إن كان على عكس ذلك ، فهو الخائن المشهود عليه بالزور والكذب والافتراء ، وإن كان من أزكى الصلحاء وأتقى الأتقياء !! ، وصدق الشاعر إذ يقول :
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتما وعويلا !
ولا يتوهمن أحد أنني أقصد بمـا ألمعت إليه الدعاية لحزب ما ، فهذا ليس في الحسبان ، بل غاية ما أرمي إليه هو بيان فظاعة وبشاعة وحرمة تلك السلوكيات التي بات يستمرئها الكثير من الغافلين والغافلات ، والتنبيه على ضرورة اعتماد المعايير الشرعية في التزكية والشهادة والاختيار ،بصرف النظر عن كون المزكى والمشهود له من هذا الحزب أوذاك ، وإلغاء وإنكار كل المعايير غير الشرعية التي هي المتحكمة الآن – للأسف الشديد – في إناطة الكثير من المهام والمسؤوليات بأناس ليسوا أهلا لها وأحق بها ، كما أسلفنا ، من مثل القرابة ، والصداقة ، والمصلحة ، والنفعية ، والزبونية ، وغير ذلك من الاعتبارات المرفوضة شرعا ، لما تفضي إليه من فساد وخراب …
* عقوبات شاهد الزور في الفقه الإسلامي :
– هذا ، ولما لم يرد من الشارع عقاب دنيوي معين ومحدد لجريمة شهادة الزور ، تعين إدراجها في نطاق الجرائم الموجبة للعقاب التعزيري المفوض إلى اجتهاد الحاكم أو من ينوب عنه .
وفي هذا السياق ، قرر الفقهاء معاقبة المرتكب لهذا الفعل الإجرامي الخسيس ، لكنهم اختلفوا في كيفية تعزيره :
فقال أبو حنيفة – رحمه الله تعالى – : يكتفى بتشهيره على الملأ ، ولا يضـاف إلى ذلك أي نوع من أنـواع العقوبـات التعزيرية الأخرى ، وهو مشهور المذهب ، وعليه الفتوى .
وزاد الصاحبان[14] : أنه يوجع ضربا ويحبس[15] .
قلت : وهو مذهب الشافعية والحنابلة . قال الشيرازي : » وإذا ثبت أنه شاهد زور ، ورأى الإمام … أن يشهر أمره في سوقه ومصلاه وقبيلته ، وينادى عليه أنه شاهد زور فاعرفوه فعل … [16]« .
وقال ابن قدامة : » فمتى ثبت عند الحاكم عن رجل أنه شهد بزور عمدا ، عزره وشهره في قول أكثر أهل العلم … [17]« .
وذهب فقهاء المالكية إلى ضرورة التشديد على شاهد الزور ومؤاخذته بأنواع شتى مـن العقوبات التعزيرية ، من ضرب ، وحبس ، وتشهير ، إضافة إلى رد شهادته وعدم قبولهـا أبدا على الأرجح .
جاء في المدونة : » قلت : أرأيت القاضي إذا أخذ شاهد زور كيف يصنع به وما يصنع به ؟ قال : قال مالك : يضربه ، ويطوف به في المجالس .. » [18] .
وفي الذخيرة : » يضرب شاهد الزور باجتهاد ؛ لأنها كبيرة ، ويطاف به في المسجد الجامع ، ولا تقبل شهادته أبدا [19]«.
وقال ابن جزي : » إذا عثر على شاهد الزور عوقب بالسجن والضرب ، ويطاف به في المجالس . وقال ابن العربي : يسود وجهه ، ولا تقبل شهادته ؛ لأنه لا تعرف له توبة [20]« .
وقال برهان الدين ابن فرحون : » إذا ثبت عند القاضي أن بعض الشهود يشهد بالزور ، ويأخذ الجعل على شهادة الزور ، عزر على الملأ ، ولا يحلق له رأس ، ولا لحية ، ورأى القاضي أن يسود وجهه . وقال ابن عبد الحكم : يطاف به ويشهر في المجالس والحلق وحيث يعرفه الناس … ويسجل عليه ، ويجعل من ذلك نسخا يودعها عند الناس ممن يثق به … [21]« .
* مستندات هذه الأحكام العقابية :
استند الفقهاء فيما قرروه من العقوبات التعزيرية المذكورة على جملة من السوابق القضائية المأثورة عن عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وشريح القاضي رضي الله عنهم . نوردها فيما يلي :
– عن الأحوص بن حكيم عن أبيه : أن عمر رضي الله عنه أمر بشاهد الزور أن يسخّم وجهه ، أي يسوّد ، ويطاف به في القبائل ، ويقال : إن هذا شاهد زور ، فلا تقبلوا شهادته [22] .
وعن شريك عن عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن عامر قال : أتي عمر رضي الله عنه بشاهد زور فوقفه للناس يوما إلى الليل يقول : هذا فلان يشهد بزور فاعرفوه ، ثم حبسه .
ورواه أبو الربيع عن شريك عن عاصم ، وزاد فيه : فجلده وأقامه للناس .
وعن أبي نضرة عن أبي سعيد الخذري عن عمر رضي الله عنه أنه ظهر على شاهد زور فضربه أحد عشر سوطا … .
وأثر عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قضى أيضا بتعزير شاهد الزور تشهيرا ، فقد روى عنه علي بن الحسن أنه كان إذا أخذ شاهد زور بعث به إلى عشيرته ، فقال : إن هذا شاهد زور فاعرفوه وعرفوه ، ثم خلى سبيله … .
كما أثر عن شريح القاضي أنه عاقب شاهد الزور بالضرب والتشهير . فقد روى عنه أبو حصين أنه كان إذا أتي به يطوف به في أهل مسجده وسوقه ويقول: إنا قد زيفنا شهادة هذا[23] . وفي رواية عن الجعد بن ذكوان أن شريحا أتي بشاهد زور ، فنزع عمامته ، وخفقه بالدرة خفقات ، وبعث به إلى المسجد كي يعرفه الناس[24] .
– ومما يجدر التنبيه عليه أن الفقهاء قديما اجتهدوا في استحداث وإعمال وسائل شتى لتشهير شاهد الزور وغيره من الجناة ، ومن ذلك : ما تضمنته النصوص المذكورة من الوسائل التي كانت تناسب وتلائم مستوى التطور الذي وصلت إليه المجتمعات وقتئذ ، وكان توظيفها يؤدي إلى تحقيق الغرض من هذه العقوبة الرادعة .
أما في عصرنا – حيث تقدمت المدنية أشواطا بعيدة ، وتطورت المجتمعات تطورا مذهلا ، واستحدث تبعا لهذا التطور وسائل إعلامية كثيرة جدا ، منها المرئي والمسموع والمقروء … – فلم تعد تلك الوسائل التي كان يتوسل بها قديما مجدية ، بل أصبح الأنفع والأجدى ، والأوفى بتحقيق الغرض من التشهير في هذا العصر، هو : استخدام مختلف وسائل الإعلام المعاصرة التي تسهل وتيسر عملية النشر والإذاعة والإخبار والإعلام إلى حد كبير ، كالإذاعة والتلفزيون والصحف والانترنيت وغير ذلك …
وفي الختام أحب أن أذكر بقول رب العزة سبحانه : ]ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ، إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ، وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا[25]( .
[1] الحج : 30 .
[2] الفرقان : 72 .
[3] انظر فتح الباري : 5/263 .
[4] النساء : 106 .
[5] أخرجه أحمد في المسند : 3/154 وابن حبان في صحيحه : كتاب الإيمان ، باب فرض الإيمان ، ح : 194 .
[6] أخرجه مسلم في صحيحه : كتاب الإيمان ، باب قول النبي r : “من غشنا فليس منا” ، ح : 102 .
[7] أخرجه مسلم في صحيحه : كتاب البر والصلة والآداب ، باب قبح الكذب … ح : 2607 .
[8] المائدة : 9 .
[9] المائدة : 3 .
[10] البقرة : 59 .
[11] المائدة : 66 .
[12] يونس : 81 .
[13] الطلاق : 2 .
[14] وهما : أبو يوسف القاضي ، ومحمد بن الحسن الشيباني .
[15] انظر شرح فتح القدير ، للكمال بن الهمام : 6/83 ،84 .
[16] المهذب” مع شرحه “المجموع” : 22/226 ، وانظر مغـني المحتـاج : 6/288 .
[17] المغني : 12/154 .
[18] المدونة : 4/74 .
[19] الذخيرة ، للقرافي : 10/229 .
[20] القوانين الفقهية ، ص 227 .
[21] تبصرة الحكام : 2/213 ، وينظر باب القضاء وأحكامه من “مختصر خليل” مع شروحه .
[22] أخرجه عبد الرزاق في المصنف : 8/327 .
[23] انظر السنن الكبرى للبيهقي : كتاب آداب القاضي ، باب ما يفعل بشاهـد الـزور ، ح : 20491 ،20492، 20495 ،20497 .
[24] أخرجه أبو بكر الإسماعيلي في معجم شيوخه : 2/633 ، وابن أبي شيبة في مصنفه : 5/532 ، وغيرهما .
[25] النساء : 134 .